هل بقي ثمة فسحة للخيال
اخبار البلد-
هل يمكن لتصميم جديد لمعالج كمبيوتر أن يحدث ضجة هائلة في عالم اليوم بحيث يجذب الإعلام العام واهتمام الجمهور، فالجميع اعتاد أن يسمع باستمرار بما هو جديد ومتطور في عالم الحواسيب والمعالجات الإلكترونية وكذلك في تطبيقاتها المختلفة: في الطب، والصناعة والترفيه وغيرها، حيث يصدق فيها قول أبي تمام "عجائب حتى ليس فيها عجائب”. ولكن إعلان شركة جوجل عن معالجها الجديد "قيد الاختبار” استطاع أن يحدث صخبا ليس فقط بين المهتمين بعالم التقنية والحواسيب، بل تمت تغطية الحدث في برامج ونشرات الأخبار في المنابر الإعلامية المختلفة، حيث قدم على أنه قفزة علمية واختراق تقني كبير.
ما قالته الشركة العملاقة في إعلانها المثير هو أن حاسوبها قد تمكن من حل مسائل تعتبر مستحيلة الحل من خلال ما يتوفر اليوم من أجهزة حواسيب حتى تلك الفائقة منها، ولإثبات هذه الدعوى، عرضت جوجل مسألة "محددة”، وقدّرت أن أفضل الحواسيب الفائقة الكفاءة يحتاج إلى 10 آلاف سنة لحلها، في حين تمكن حاسوبها ” سيكامور” من حلها في ثلاث دقائق وعشرين ثانية فقط ، وأعلنت بذلك أنها قد حققت هدفا وحسمت مرحلة تعرف ب "سيادة حاسوب الكم” على الحواسيب الحالية، فماذا يمكن أن تقدم هذه السيادة التامة للمجتمعات البشرية، وكيف سيؤثر هذا في حياة الناس.
يقول من يتحدث عن هذا الفتح التقني أن هذا النوع من المعالجات -بعد الانتهاء من تطويره وصناعته – سيقدم إمكانيات هائلة في عالم الطب والصناعة والمركّبات الكيميائية والنقل وعلوم الفضاء والذكاء الصناعي ومجمل البحث العلمي، هذا في الجانب الإيجابي، وسيمكّن أيضا من فك أعتى الشيفرات، ويكشف الحماية الإلكترونية عن الحسابات والوثائق وأنظمة الإتصال، ويمكن أن يستخدم استخدامات خطيرة وسيئة كثيرة. فهو يمهد لنقلة واسعة قد تقود الى تحولات كبيرة في المجتمعات وطرق العيش خلال عقود قليلة، من خلال مجموعة كبيرة من "التقنيات الكمومية” التي يتم تطويرها في مختبرات الشركات الضخمة.
هو اذا حاسوب ونظم معلوماتية تتأسس على مبادئ فيزياء الكم، تلك الميكانيكا التي تتحدى البديهيات والحس المشترك، وتبدو متناقضة مع العقل. فمن مبادئ الكم المثيرة ما يعرف بـ”التراكب”: أي أن الأجسام الدقيقة تتموضع في موقعين مختلفين في ذات الوقت، أو يكون لها حالتان مختلفتان في ذات الوقت. والغريب أنه عند رصد الجسيم الدقيق – أي معاينته- فان حالة واحدة تبقى، وتضمحل أو تتلاشى الحالات الأخرى، هذا ما تثبته ميكانيكا الكم في المختبر.
وقد وقف الفيزيائي الأشهر اينشتاين حائرا أمام ظواهر الكم وكيف أن الرصد المراقبة تحدد الوجود، فقال كلمته التي اشتهرت عنه "أحب أن اعتقد ان القمر موجود حينما لا أنظر إليه”، ولكن هذه النظريات التي تتناقض مع فهمنا البديهي للمادة تستخدم في مجالات كثيرة، واليوم تستخدم من أجل بناء أجهزة مختلفة تماما عن شرائح الكمبيوتر "الكلاسيكية” المستخدمة حاليا في الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المختلفة.
من المثير للاهتمام أن يتحقق هذا الإنجاز من خلال شركة تجارية وليس من خلال الحكومات أو الجامعات أو المراكز البحثية، وهذا يجسد الدور المتزايد للشركات التجارية الكبرى في تطوير العلوم والتقنيات وامتلاك قدرات ذات أثر كبير في مختلف جوانب حياة الناس. كان إنجاز شركة جوجل سبقا لمنافسين اشداء في المضمار من شركات التقنية مثل أي بي ام ومايكروسوفت وانتل، وهناك إنجازات متقدمة يتم الحديث عنها في الصين وأستراليا واليابان في ذات المجال، ولكن قصب السبق في هذه الجولة كان لجوجل.
فيزياء الكم والحوسبة الكمية سابقة لوجود جوجل بعقود كثيرة، ويبدو أن الطريق مفتوح أمام المزيد من الإنجازات الثورية، ومع تحقق المزيد يشرع باب لأشكال جديدة من طرق العيش في المستقبل على نحو ما تقدمه التنبؤات العلمية وأفلام الخيال العلمي، ولا عزاء للأمم التي تجلس على مقاعد المتفرجين وطوابير المستهلكين.