معضلة الحراك في لبنان.. سراب أم خيال علمي؟

اخبار البلد-

 
في الوقت الذي ينشغل فيه المحتجون بشوارع المدن اللبنانية وميادينها بالهتاف مطالبين بالقضاء على الفساد ايا كان مصدره، وايا كانت هوية الفاسد، وفي الوقت الذي يطالب اللبنانيون فيه بإصلاح نظامهم السياسي واسقاط الطبقة الحاكمة او النخبة السياسية بكافة اطيافها، تنشغل وسائل الاعلام العربية والدولية كما تنشغل القوى الاقليمية والدولية في توظيف الاحتجاجات بما يخدم مصالح هذه الجهة او تلك الاجندة.
تشتد التجاذبات الاعلامية والدبلوماسية مع تراكم الاخطاء التي يرتكبها السياسيون؛ كان آخرهم الامين العام حسن نصر الله بخطابه الشهير الذي مثل قشة تعلقت بها القوى المتصارعة في لبنان لتبادل اللكمات والضربات الموجعة فوق الحزام وتحته؛ وذلك لإعادة توجيه الاحتجاجات نحو هذا الطرف او ذاك، كما انشغلت بها القوى الاقليمية والدولية الى حد قول احد الدبلوماسيين الامريكان ان هدف الاحتجاجات في لبنان اسقاط حزب الله.
لم يكن حسن نصر الله الشخص الوحيد الذي خاطب العامة في لبنان اذ خاطبهم جبران باسيل وزير الخارجية وميشيل عون رئيس الجمهورية ومن قبله سعد الحريري رئيس الوزراء ووليد جنبلاط زعيم الحزب الاشتراكي التقدمي وسمير جعجع زعيم القوات اللبنانية وبري زعيم امل ومن ينوب عنه، وتأرجحت الازمة بين هذا الطرف وذاك الا ان بوصلة الشارع اللبناني بقيت محافظة على مسارها حتى اللحظة؛ امر بات الكثيرون يشككون في امكانية استمراره في ظل تصاعد النشاط الاقليمي والدولي المتحمس لإعادة توجيه الحراك في لبنان بعيدا عن الاهداف الممكن تحقيقها.
صحيح ان القوى المتنافسة في لبنان طائفية كانت ام سياسية والقوى الاقليمية والدولية تربك الحراك وتهدد غاياته السامية الا ان الحراكيين والمحتجين يتحملون جزءا مهما من المسؤولية، الى الآن لم يتمكن المتظاهرون من افراز زعامة وقيادة لهذا لحراك تجمعهم، هيئة تستطيع ان تفاوض المسؤولين الحكوميين عاكسة بذلك ازمة لبنان المزمنة والمتجذرة وهي «الثقافة العميقة» التي تنتظر مبررا لتعبر عن نفسها عبر الغرائز.
القنوات التلفزيونية لن تصنع زعامة تبتعد عن اجندتها ما دامت القوى الحراكية والمحتجون مستنكفين عن فعل ذلك فلا احد سيفعلها على الارجح؛ افراز قيادة للشارع تفاوض الحكومة والقوى السياسية؛ وفي حال استمر الحال على ما هو عليه بدون آليات للتفاوض والتفاهم وسيعود اللبنانيون الى بيوتهم محبطين وهو خطر عظيم وحدث جلل يجعل اللبنانيين عالقين في الزمن بلا مخرج حقيقي.
فالمتحدث باسم المتظاهرين لا زالت النخبة الاعلامية ووسائل الاعلام واخطرها الخارجية التي تسعى لإعادة توجيه الحراك بما يخدم هذه الاجندة او تلك؛ الفشل في افراز اطر تفاوض الحكومة والقوى الممثلة في البرلمان او فشل النخبة في افراز لجنة مشتركة تفاوض المتظاهرين كجهة رسمية من ناحيتها يضع الحكومة والرئاسة في الزاوية، وكأنها المسؤولة عن ازمة لبنان علما انها تمثل فصيلا تصادف انه في قمة هرم السلطة.
عدم وجود آليات للتفاوض يبقي لبنان عالقا في الزمان والمكان ذاته؛ تبقي الامور بيد الحكومة والرئاسة التي ستتحمل كامل المسؤولية وعلى رأسها الرئيس عون الذي استقر في منصبه ثلاث سنوات ليحمل وزر ازمة اقتصادية عمرها اكثر من 30 سنة؛ مهيئة الاجواء لإعادة تأجيج الغرائز وعودة الاصطفافات من جديد. 
لبنان اشكالي بكل ما تعنيه الكلمة ولعل الحل الوحيد الممكن قبل ان يعود كل حزب بما لديه فرح وبزعيمه مكتفيا ان تساعد القوى السياسية التقليدية المحتجين على تشكيل هيئتهم الخاصة لمفاوضة الحكومة وملاحقة الفساد وتحسين الخدمات المتدهورة؛ هيئة عابرة للطوائف والقوى السياسية تتعامل مع الحكومة وطاقمها وتضع اساسا لتغير ايجابي في الوضع الاقصادي والخدمي ومن الممكن ان يمتد تأثيرها الى الدستور مستقبلا، بيد ان هذا المقترح يدخل في اطار الخيال العلمي لأنه يستثني ويحيد كل العناصر السابقة الدولية والاقليمية والمحلية والثقافة العميقة في المجتمع.
فلبنان سيبقى عالقا في الطائفية والفوضى الاقتصادية دون رابح حقيقي ان لم ينجح الحراكيون والمحتجون في افراز قيادتهم وهيئتهم للتفاوض مع الحكومة والقوى السياسية ايضا؛ هيئة تعكس واقع لبنان واطيافه قادرة على التفاوض والنفاذ الى واقع المشهد السياسي وتعقيداته، هيئة قادرة على التعامل بكفاءة مع الحكومة والدولة والكيانات السياسية المتعايشة داخليا؛ توصيف اشبه بالخيال العلمي مرة اخرى ويحتاج الى تفهم القوى الاقليمية والمحلية اللبنانية؛ ما يجعل من امكانية تشكلها خيالا علميا ممتدا في المستقبل عقودا ان لم يكن قرونا.
خيال علمي يعيدنا الى ذات المربع ضرورة وجود رعاة من الدول والقوى السياسية وبأهداف واضحة محددة ما يجعلها هيئة واقعية اكثر من اللازم وسببا في الاحباط مرة اخرى انها معضلة متعبة ومفارقة مضحكة ومحزنة في لبنان فالتحسن المتوقع طفيف ولكنه افضل من لا شيء بوجود هيئة للمحتجين الحراكيين هيئة لم تتشكل بعد ويبحث عنها الجميع كبحثهم عن السراب!