تفاءلوا تصحّوا

اخبار البلد-

 

لقد ابتليت هذه الأمة عبر التاريخ – جملة وشعوباً، كما ابتلي به كثيرٌ غيرها، بكوارث لا تُحصى. فمنذ اغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة، ومعركة كربلاء، ومحو دولة بني أمية، وسيطرة الأقوام الهمجية على الخلافة بعد ذلك وحتى سقوطها النهائي، واستعمار بريطانيا وفرنسا لبلادنا، واغتصاب الصهيونية فلسطين، والكوارث تتوالى.
قلما شعر الناس بالمنطقة الممتدة بين الخليج والمحيط، بالسعادة يوماً. ظلوا ينتقلون من نير إلى نير، ويعانون جسدياً ونفسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وفكرياً وسياسياً حتى الساعة. وهكذا سيطرت نظرة التشاؤم عليهم.
هذا التشاؤم انعكس على كل واحدٍ منا، وإلا اعتُبر، لو أبدى التفاؤل، خارجاً عن الخط أو المزاج العام. وكأن كل واحد منا يقول لنفسه: كيف أسمح لنفسي بالتفاؤل أو الفرح وأنا أرى بلادي تُدَمر وتُقْتَحَمْ وتُقسم وتَجوع ويموت ابناؤها وبناتها وأطفالها في القفار والبحار؟ كيف أتفاءل وأنا أرى عجولها وثيرانها تتناطح وتُكسّر قرون بعضها البعض بحروب أهلية ممتدة؟
لا نتذكر أن أوروبا، مثلاً، مرت بكوارث أكبر وأطول زمناً مما مررنا أو نمر به، بحرب السنوات السبع، والثلاثين سنة، والمائة سنة، والحربين العالميتين، ولكنها مع ذلك نهضت وتجاوزت تاريخها المليء بالكراهية والتعصب والتكفير باتحاد هو نموذج ومثال لنا ولأمثالنا.
فلماذا لا يخطر على بالنا هذا التطور؟ ولماذا لا نطلبه ولماذا لا نعمل من أجله؟ إن التاريخ دوار ولكنه لا يدور لصالحك بغير إدارة ناجحة، ونحن قادرون عليها إذا تعلما منه ولم نكرره ولم نرسب فيه، أي إذا مضينا على الطريق نفسه، لأن شعوب هذه الأمة لا تصلح إلا بما صلح به غيرها، وهو طريق الحرية والديمقراطية والعلمانية والمواطنة وحقوق الانسان والمعرفة (العلم والتكنولوجيا)، فهي الجامع المشترك الأعظم للنهوض والتقدم في هذا العصر. ولأن الزمن فاتنا فإنه يجب علينا حرق المراحل كما فعلت أميركا واليابان وكوريا، وخلع ثوب التاريخ المهترئ المُرَقع بالكراهية والتعصب والتكفير وتفصيل ثوب جديد جميل بدلاً منه مطرز بألوان الجامع المشترك الأعظم.
التشاؤم الذي يحتلنا يفتك بنا صحياً: نفسياً وجسمياً بتركيزنا الدائم على نصف الكأس الفارغ. إنه يتسبب لنا بأمراض شتى لا ندرك سبب كثرتها، مع أنه هو السبب الخفي الرئيس لها.” فقد وجد باحثو صحة أميركيون فحصوا نحو خمسة الآف شخص بين سني 45-84، ان الأشخاص المتفائلين يحظون بصحة قلبية مضاعفة، وبأوعية دموية قوية، وبمستوى صحي من الضغط والسكر والكولسترول الطيب مقارنةً بالمتشائمين” (القدس في 19/10/2019).
وفي الأردن يبلغ التشاؤم المدى عند مجمل الناس بحجة سوء الأوضاع العامة والخاصة والاقليمية والدولية ذات العلاقة ويفتك بصحتهم. إن كلاً منا يزايد على الآخر بالتشاؤم ليبدي فهمه وحرصه وقلقه على الواقع والمستقبل، وأن الهجرة هي الحل لمن يستطيع اليها سبيلاً.
غير أننا لو توقفنا قليلاً ورفعنا الغشاوة عن عيوننا لوجدنا الكثير مما يمكن التفاؤل به. لرأينا نصف الكاس الممتلئ بما وصلنا اليه من تقدم نسبي في مختلف الميادين بين الأردن بعد الاستقلال حتى سنة 1989 وبينه الآن. كان التعبير محرماً وكانت كلمة كافية لدخول المرء السجن أو الفصل من الوظيفة وامتناع توظيفه بالحرمان من حُسْن السلوك حتى تاريخه. ها نحن اليوم نصول ونجول في وسائل التواصل الاجتماعي بسقف عالٍ نسبياً من الحرية ونطالب بالمزيد. يكفي الانتباه إلى اننا ننفق أكثر من ألف مليون دولار سنوياً على السياحة في الخارج، ومثلها على الهاتف الخلوي، ومثلها على التدخين، وأن ازدحام السيارات في المدن والقرى دليلٌ على الوفرة، وأن الشوارع والطرق الخارجية بين المطار والمدن والقرى مضاءة مما لا تجد له مثيلاً عند الغير، وأن المدارس والجامعات تملأ بلدنا الجميل. اننا على الطريق نسير.
يجب علينا أن نعمل المستحيل، ولكن بعيداً عن جرّ البلاد إلى حافة الهاوية أو دفعها إليها، كي لا نخسر ما بنته الأجيال في مئات السنين في ساعة واحدة.
لا يعني هذا اننا لا نتشاءم أبداً، أو لا ننتقد العوج، أو لا نحارب الفساد. إن العكس مطلوب بل مُلِح كلٌ بمقداره. وأخيراً يجب ان نتذكر أن التشاؤم معدٍ وأن التفاؤل دواء، فتفاءلوا تصحّوا.