“السلطة” ووهم السلطة..!

اخبار البلد-

 
كان يفترض في "السلطة الفلسطينية” أن تكون تكويناً انتقالياً مؤقتاً إلى دولة فلسطين المستقلة. ويُفترض أن يكون دورها تحضيرياً، قوامه الوحيد إعداد البنية التحتية والمؤسسات الضرورية للدولة، والتنسيق مع الكيان الصهيوني بالقدر الذي يخُص وفاءه بالتزاماته وتنفيذ بنود اتفاقيات أوسلو 1993. وبذلك، يجب أن يكون دورها الذي أنشئت من أجله قد انتهى بمجرد انقضاء الفترة المتفق عليها لقيام الدولة من دون دولة، واستمرار العدو في الانتهاك الصارخ للاتفاقيات وعمله الدؤوب –تحت غطاء وجود "السلطة” بالتحديد- على نسف الإمكانية الواقعية لقيام الدولة.
كان يجب أن تعاد المسؤولية منذ التسعينيات إلى منظمة التحرير الفلسطينية، مع إصلاح المنظمة وتخليصها من الفئوية والهيمنة الفصائلية، واشتغالها بإخلاص غير نرجسي على مشروع وطني واضح الخطوط وطويل النّفس ولا يفرط بالأساسيات. ولكن، على الرغم من تقييمات المتعاطفين الخارجيين والمراقبين المحليين لأدوار "السلطة” في ميزان المكاسب والخسائر في الصراع مع العدو، تُصرّ "السلطة” المرتهنة تماماً للأميركان والكيان من حيث الوجود الفيزيائي وسبل الإعاشة، على البقاء لأداء وظائف غريبة. وهي تصر تماماً على تجسيد أدوار "السلطة” بأسوأ معاني هذه المفردة، وبطريقة لا تليق بخبرة شعب محتل ومنفي ومعذَّب يرى مشروعه الوطني مجمداً أو متعثراً وخاسراً لعقود.
لطالما انتقدت المنظمات الدولية المتعاطفة، قبل المعادية، مظاهر الفساد المالي والترف النخبوي في "السلطة”. وانتقد الحقوقيون قيام "السلطة” بسجن الفلسطينيين وتقييد حرياتهم، بل وممارسة التعذيب ضدهم في معتقلاتها بسبب الرأي أو المقاومة. وبالإضافة إلى ذلك، فشلت "السلطة” في توحيد الفلسطينيين حول برنامج تحرري آمل وتجنيد طاقاتهم الكبيرة بطريقة إيجابية، وحيّدت فلسطينيي الشتات الذين يشكلون القسم الأكبر من الشعب الفلسطيني، ونسّقت ضدّه مع العدو بإخلاص أسطوري يستغربه القريب والبعيد.
من المخجل حقاً أن يريد أحد للفلسطينيين لعب دور نظام حكم تقليدي أكثر من استبدادي ضد أبناء شعبه، وأن يفرض عليهم المزيد من كتم الصوت وتقييد الأيدي ويستهدفهم لمجرد اقتراح أفكار بديلة أو محاولة المقاومة. وكان أحدث التجليات قيام السلطة بحظر خمسين موقعاً إعلامياً ينشر البعض منها آراء مختلفة مع "السلطة” أو تنتقدها. ولو صدر هذا عن حكومة دولة مستقلة حقيقية مثل بقية دول المنطقة، لأمكن فهمه –ولو ليس تفهمه- في إطار الصفات المعروفة عن الأنظمة في بلداننا. أما أن يصدر عن تكوين مُحتلّ ومُهان –ليس حكومة لدولة- وفاقد لمسوغات وجوده، والذي أهم وظائفه التنسيق الأمني "المقدس” مع العدو- فلا يمكن فهمه على الإطلاق.
أظهرت "صفقة القرن” بما لا يقبل الشك أن الغاية الأساسية للإبقاء على "السلطة” هو وجود جهة فلسطينية للتوقيع على التنازل عن فلسطين. وأفهمت أميركا "السلطة” أنها تستطيع تجويعها وتجريدها من الهيبة والدور متى ما أرادت ذلك. ومن المعروف أن كيان الاحتلال يستطيع تفكيك "السلطة” في دقيقة وسوق قادتها إلى المعتقلات أو نفيهم بملابسهم –لولا حاجته لها كواجهة لتغطية تعميق الاحتلال وتأبيده. ويُفترض أن يكون كل ما حدث منذ أوسلو قد خلص "السلطة” من الوهم وتصديق أنها حكومة في دولة حقيقية. لكنّ الذي حدث هو العكس تماماً. ثمة المراسم والمراسيم، والمواكب والاستقبالات والأجهزة الأمنية والحرس، وتعزية العدو بموت سفاحيه وتهنئته بأفراحه، وكل مظاهر الدولة، إلى الدولة. ولا يتمنى أي فلسطيني أن تكون فلسطين الحرة، عندما تتحقق، بمثل هذه القيادة وهذه الممارسات التي لا تفترق عن أسوأ نظام سلطوي.
من المؤسف أن يكون الفلسطينيون محتاجين إلى انتفاضة لخلع "السلطة” مثل البقية، وأن يواجهوا حاجزاً عنيداً محلياً أمام حاجز الاحتلال القاسي. ولو كان الأمر بينهم وبين الاحتلال، لكان نضالهم أكثر كرامة وأحقية وعدالة وانسجاماً مع الضمير. لكننا نسمع قدراً أكبر مما يجب من الشكوى المستمرة من الممارسات التي لا تليق بقيادة شعب مضطهد بالولادة منذ أجيال. ويقتضي الشرف الوطني في الحالة الفلسطينية أن يحاول القادة قيادة مسيرة التحرر، وأن يتركوا لغيرهم المحاولة بمجرد أن يفشلوا في تحقيق شيء خلال فترة –لتكن أربع، أو ثماني سنوات، ولو أنه كثير. وبغير ذلك، يكون القادة قد وقعوا في وهم العصمة الذاتية القاتل، والاعتقاد الخائب بأن الله خلقهم وكسر القالب -وهو مقتل الدول، ناهيك عن الحركات التحررية!