قصة لا تفتأ تكرر نفسها

اخبار البلد-

 
كان ذلك في شتاء العام 1986.. وعلى غير عادة الطلاب وقتها، وجدتني أنساق لنداء داخلي ألحَّ عليَّ أن أحزم حقيبتي مُيَمِّما وجهي شطر الوطن، أيام وساعات طويلة قضيتها برفقة عشرات من الطلاب الأجانب واقفين أمام مكتب شركة الطيران الوحيدة التي كانت تحتكر حق تسيير الرحلات التي تصل العالم على جانبي الستار الحديدي متجمدا من برد موسكو القارس، لعلي أظفر بتذكرة على متن الرحلة الأسبوعية اليتيمة المتجهة إلى عمان، وبعد وقبيل انطلاق الرحلة وبكثير من الحظ، وإن كان قد سانده ورقة من فئة المائة روبل سقطت "سهوا” بين دفتي جواز سفري ضمنت لنفسي مقعدا على هذه الرحلة.
وصلت البيت على غير انتظار، حيث قابلتني وجوه الأهل مكفهرة تنبئ بخطب جلل، فبعد سلام مقتضب حاول الجميع سحبي خارج الغرفة والانفراد بي لنقل خبر إصابة جدي بالسرطان، محذرين من التحدث بهذا أمامه لأنه لا يعلم حقيقة مرضه.
كان جدي مستلقياً على فراشه في ركن الغرفة.. شبحا للشخص الذي كانت تتمحور حوله وتتكئ عليه حياتنا، حاول استجماع ما بقي لديه من طاقة ليعانقني وأنا أداري دموعاً فشلت في منعها من الانفلات.
كان ذلك أول لقاء لي مع هذا المرض وجها لوجه، ولم تسعفني محاضرات الكيمياء والأحياء التي كانت كل حصيلتي من الطب وقتها في استيعاب كنه هذا المرض الذي لم يكن مطروقاً كثيرا وقتها.
كان الزوار يؤمون بيتنا، وكلما جاء أحدهم اصفرت وجوهنا خشية أن تفلت منه كلمة تخرق جدار الصمت والسرية الذي ضربناه حول مريضنا حماية له من صدمة الخبر.
مضت الأيام والسنون سريعاً، ودار الزمن دورته ويشاء القدر أن يقربني أكثر من هذا المرض بالعمل في أحد أهم المستشفيات التي تعنى به، لكني ما زلت أجد جدي في كل مريض وفي كل تصرف نمطي لأهله الذي لم يتغير عبر السنين رغم زيادة معرفتنا بالمرض وتماسنا المستمر معه.
كلما شهدتُ هذا التصرف النمطي من قبل أهل مريض ابتلي بهذا المرض، يقفز إلى ذهني مشهد سانتياغو نصّار بطل رواية ماركيز الشهيرة "قصة موت معلن” يجوب شوارع البلدة، والجميع يرمقونه بعين الشفقة أو التواطؤ، وهم يعلمون ما يخبئُه له الإخوة التوأم، لكن أحداً لم يجرؤ على إخباره بالحقيقة. وبالتالي تواطأوا جميعاً على قتله ولم يبوحوا له بالمصير الذي ينتظره، وكأن هذا القتل المُعلن للجميع -إلا له هو شخصياً- وفقاً لدلالة عنوان الرواية، هو قدرٌ محتوم لا مفر منه. ومن شوارع تلك البلدة الكاريبية، وسانتياغو نصار، أعود إلى مريضنا وأتساءل إذا سار سانتياغو نصار في شوارع بلدة تآمرت عليه بصمتها، من الذي نصّب الآخرين ليكونوا وصاة عليه، حتى لو كانوا أقرب الناس إليه، وليقرروا عنه ما يجب ولا يجب أن يعرفه، وما الأخبار التي يستطيع احتمالها، وتلك التي لن يستطيع. أليس هذا الإنسان هو أولى الناس بمعرفة تفاصيل مرضه ومآل مصيره، وأحوجهم إلى اتخاذ بعض القرارات المصيرية التي تتعلق بحياته؟ وما الذي جعل من هذا المريض إنساناً لا حول له ولا قوة؟ وهو الذي كان قبل زمن ليس بالبعيد يملأ الفضاء بصخب صوته، وضجيج حياته، وهل في إخفاء الأمر عنه، والتعامل معه كقاصر لا يملك من أمره شيئاً، وتنصيب الأهل أنفسهم أولياء عليه يحمل احتراما وحبا له ام هو تواطؤ مع المرض الذي يفتك به ويلتهم الزمن المتبقي له في هذه الحياة دون إدراك منه لما يجري حوله محروما من حقه في ان يمتلك زمام ما بقي في كنانته من أيام؟!
كون الإنسان مريضا لا ينزع عنه الأهلية، ولا يجعله أسيراً لعبث مشاعر الآخرين المدفوعين خلف عواطفهم متناسين أن المرض لا يلغي قانون العقل والمنطق والحقيقة.
أعلم أن نقل الأنباء السيئة هو علم وفن لا يمتلكه الكثيرون، وليس كل طبيب مؤهلا لأن يفعل، وكذلك أي فرد من أفراد أسرته؛ وأعلم أن تلقي الناس لهذه الأنباء يشي بردود أفعال مختلفة، لكنّي أومن في الوقت ذاته، أن من حق الإنسان أن يمتلك المعلومة الصحيحة عن حقيقة وضعه، وأن لا ننصب أنفسنا قيّمين عليه.
أنا هنا لا أدعي امتلاك الحقيقة في موضوع شائك كهذا يختلط فيه الأبيض والأسود، وما يخلفه هذا الخليط من ظلال، لكنني أجد نفسي منحازا إلى كرامة الإنسان، وحقه في الحصول على المعلومة بمنتهى الشفافية والموضوعية اللّتين لا يحدهما مرض مهما كانت خطورته.