(دولة الفساد)
يمكننا تصنيف الفساد أربعة أصناف أساسية:
الصنف الأول, فساد صغار الموظفين. وهو خليط من الرشا الصغيرة والإكراميات والهدايا. وهو يعوّض الموظفين عن آثار التضخم. ويمثّل الفارق بين الراتب وتكلفة سلة العيش الأساسية, حيث تتكفل الحكومة والشركات بجزء من تلك التكلفة, بينما يُترَك الموظف لتحصيل الباقي من المراجعين المهتمين. وقبل 1988 حين كان الدينار قويا ويغطي تكاليف المأكل والملبس والسكن الخ.. لم يكن فساد الموظفين منتشرا في الأردن. والغريب أن انتشاره ما يزال محدودا نسبيا رغم ارتفاع نسبة التضخم بحيث تأكل الرواتب بالفعل. وربما يعود ذلك, تحديدا, إلى القيم العشائرية. وفساد الموظفين غير ضار اقتصاديا ولا يمس حقوق الخزينة, لكنه يؤدي, احيانا, إلى ضرر في مستوى ونوعية السلع والخدمات وجودة المشاريع المسلمة من المقاولين.
الصنف الثاني هو الفساد البيروقراطي. وهدفه تأمين البيروقراطيين بسبل عيش تتلاءم مع مراكزهم الإدارية (فيلا وسيارة فخمة ورصيد معقول). ومعظم هذا الفساد يتعلق باستخدام المعلومات وبيع القرارات الإدارية مثل تنظيم الأراضي أو تغيير تنظيمها.. الخ . ولا يمثل, دائما, عدوانا على خزينة الدولة. لكنه يؤذي صدقيّة الإدارة ويقوّض نزاهة النخبة.
الصنف الثالث, الفساد السياسي. وهو استخدام القرارات السياسية في تمرير صفقات كبرى واحتكارات وعطاءات وتلزيمات وإعفاءات وغسل الأموال.. الخ, بالشراكة مع الرأسماليين. وهو فساد ضار بحقوق الخزينة والإقتصاد الوطني. وهدفه انتقال السياسيين إلى صفوف الرأسماليين, ليس فقط من حيث تمويل نمط المعيشة, ولكن كشركاء.
الصنف الرابع, الفساد النيوليبرالي. وهو نمط خاص من الفساد السياسي هدفه تحقيق ثروات ضخمة مخصصة لطبقة جديدة متشابكة العلاقات الإقليمية والدولية, أي طبقة كمبرادورية إقتصادية سياسية لها وظيفة إيجاد السبل لنهب البلد من قبل الرأسماليين الأجانب. لا يكتفي الفساد النيوليبرالي بالحصول على حصص من خصخصة أو إدارة مشاريع قائمة, ولكنه يبتدع برامج ومشاريع إفتراضية مصممة بهدف تحقيق أرباح خيالية على حساب خزينة الدولة والمساعدات والمنح والإقتصاد الوطني. ويشتمل الصنفان الثالث والرابع على الهدر المالي وتفكيك المؤسسات وتجاوز القانون والآليات الدستورية.. الخ, يتطلب اجتثاث فساد الموظفين ربط الأجور بالأسعار والسماح بحرية التنظيمات النقابية في القطاعين العام والخاص, بينما يعالج فساد البيروقراطيين بالديموقراطية, أما الفساد السياسي والنيوليبرالي, فلا يمكن اجتثاثه إلا بالإطاحة بالنهج الإقتصادي الليبرالي ووضع حد فاصل نهائي بين رجال القرار ورجال الأعمال.
تعالج وسائل مكافحة الفساد القائمة,إلى حد ما, فساد الموظفين والبيروقراطيين, لكنها لا تمس ملفات الفساد السياسي والنيوليبرالي, المنتمية, أصلا, إلى دائرة السياسات المقررة. وآثارها الظاهرة تكمن في التخريب الإقتصادي وتضخم المديونية والمشاريع الفاشلة, لكن من دون قرائن جرمية سوى قرينة الثروات الخيالية.
يتمثل الرد الاجتماعي على الفساد السياسي النيوليبرالي بمهاجمته ومهاجمة أبطاله والضغط السياسي المضاد. وقد بقي هذا الرد أسير المداولات غير المعلنة باستثناء تصريحات محدودة يتم اسكاتها بكل الوسائل,حتى انكسر الخوف بفضل الحراك الشعبي, عندها أصبحت ملفات الفساد السياسي النيوليبرالي متداولة على نطاق واسع. وهو ما استلزم تعديل قانون مكافحة الفساد بحيث يقلب الآية, ويعاقب مناهضي الفساد وليس الفاسدين المراد حمايتهم من " إساءة السمعة" و" اغتيال الشخصية".. الخ - بغرامات باهظة جدا بين ثلاثين ألفا وستين ألفا. وتأمل السلطات, بذلك, إسكات الرأي العام وتخويف النشطاء من التنديد العلني بالفاسدين الكبار الذين لا توجد ومن الصعب أن توجد - قرائن جرمية ضدهم, إلا بقرار سياسي.