أزمة المعلمين: قمة جبل الجليد
أن تحدث أزمة بسبب خلاف أو اختلاف بين الحكومة ونقابة المعلمين على مطالب مالية مشروعة هذا طبيعي، ولكن من غير الطبيعي أن تتحول الأزمة، وخاصة بعد الإضراب، الى أزمة مفتوحة تمتد لأربعة أسابيع حتى الآن، فهذا غير مقبول. إن عدم قدرة الطرفين للتوصل لحلول مقنعة تراعي واقع المعلمين، وضمن الإمكانيات المتاحة للحكومة أمر غير مقبول، وكان من الواجب التنبؤ به وتجنبه بكل السبل.
إن إدارة الأزمة كانت تقتضي إيجاد أو التوصل لحل لهذا المطلب المعيشي للمعلمين في فترة زمنية محددة لأن الجميع يدرك أن استمرار الإضراب وبقاء أكثر من مليون ونصف طالب خارج الغرف الصفية لهذه الفترة الزمنية الطويلة سوف يؤدي الى تداعيات قد تخرج عن سيطرة الطرفين وتؤدي الى النتائج غير منظورة وغير حميدة. المسؤولية للوضع الذي آلت إليه الأمور هي مسؤولية مشتركة تتحمل مسؤوليتها الحكومة والنقابة.
لكن بعيداً عن ذلك، فإن إضراب المعلمين والأزمة التي نتجت عنه تدل على أنها ليست سوى قمة جبل الجليد لمشاكل متراكمة، سواء كانت بقطاع التعليم نفسه، أم كانت لأسباب أخرى لها علاقة بتطور علاقة الحكومات المتعاقبة مع المواطنين بشكل عام.
السياسات التعليمية والتربوية المتعاقبة أدت الى تطورات مغلقة في قطاع التعليم العام، والتي لم تأخذ بعين الاعتبار أو لم يتم الاهتمام بها.
إن فتح مجال التوسع للقطاع الخاص في تعليم المدارس قد أدى الى نتائج غير منظورة، ولها أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية. حسب التقديرات، فإن أكثر من ثلث الطلبة في الأردن يدرسون في مدارس خاصة متفاوتة السوية والمستوى، ولكن نسبة كبيرة منها توفر بنية تحتية ومدرسية أفضل من عدد كبير من المدارس الحكومية، بالإضافة الى اتباع قسم كبير منها مناهج دولية إضافةً للمناهج الوطنية، وتدرس اللغة الانجليزية بالإضافة الى إمكانيات أخرى لها علاقة بالأنشطة اللامنهجية بهذه المدارس.
هذه الظروف والواقع أدى مع مرور الوقت الى هجرة الطبقة الوسطى من المدارس الحكومية الى المدارس الخاصة، مما أدى الى حدوث تمايز بين القطاع العام والخاص لصالح القطاع الخاص، وتدريجياً ضعفت إمكانيات القطاع التعليمي العام، وتحول لأبناء الطبقة الوسطى الدنيا والطبقة الفقيرة. الانعكاسات الطبقية لهذا الوضع كبيرة جداً، فمن ناحية أصبح رمزاً للمكانة الاجتماعية وعامل تمايز داخل المجتمع. ولكن الأبعاد الطويلة المدى كانت أهم وأخطر، حيث أنها ساهمت في تعزيز الانقسام الطبقي الاجتماعي، وبدلاً من أن يكون التعليم عاملاً مهماً في الحراك الاجتماعي، وبدلاً من أن يكون التعليم عاملاً مهماً في الحراك الاجتماعي / الطبقي / المهني، كما كان لعقود سلفت، أصبح عاملاً في تكريس الطبقية وعدم المساواة داخل المجتمع.
بالإضافة لذلك، فإن الموقف المتعاطف مع المعلمين، والى درجة أقل مع الإضراب، لا يمكن تفسيره من منظور التضامن مع المعلمين فقط، وإنما لا بد من أخذ تراجع الثقة بالحكومات تراكمياً والمعارضة للسياسات الحكومية بشكل عام، والذي يمكن إعادتها ولو جزئياً الى التراجع في الوضع المعيشي والاقتصادي لأغلبية الناس وعجز الحكومة عن فعل أي شيء لتغيير هذا الواقع وتحسين الوضع الاقتصادي.
إن التعليم في الدولة الحديثة شأن سيادي لأنه الوسيلة الرئيسية التي من خلالها تنقل الدولة رسالتها وقيمها ومرتكزاتها وتطلعاتها أو التنشئة السياسية والنقابية للأجيال الجديدة. لذا فنجد أن التعليم في الدول المتقدمة هو حكومي وهو السر في تقدم تلك الدول، ولا يمكن أن تتخلى عنه للقطاع الخاص.
التوسع في التعليم الخاص بالأردن، بالرغم من إيجابياته وكفاءته، إلا أنه كان له آثار سلبية على التعليم بشكل عام، وعلى المجتمع في الآن نفسه.
بغض النظر حول كيفية انتهاء الأزمة الحالية، فإن على الحكومة أن تقرأ جيداً التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمع الأردني، وتخرج بخريطة طريق عابرة للحكومات لمعالجة الاختلالات والمشكلات الناجمة عن السياسات المتراكمة. الحكومة لا تملك عصا سحرية ولكنها يجب أن تمتلك الإرادة والرغبة في فتح حوار وطني يؤدي لتصور مشترك للخروج من أزماتنا المتعددة والمتراكمة.