(المركزي): يساري يخلف ليبراليا !
تتمحور المسوّغات التي طرحها رئيس الوزراء, الدكتور معروف البخيت, لإقصاء محافظ البنك المركزي, فارس شرف, عن منصبه حول اتهامه باتباع نهج الليبرالية الإقتصادية. وهو نهج أصبح مكروها على المستوى الشعبي والوطني, مكروها إلى الدرجة التي قد تشطب أي سياسي أو مسؤول, وتبرر البطش به.
لكن أخشى أن البخيت قد قدّم خدمة غير مقصودة لليبراليين الإقتصاديين المدموغين, على العموم, بالفساد. ففارس شرف, على العكس, معترَف بنزاهته ومشهود له بأنه, إبان قيادته الوحدة الاستثمارية في الضمان الاجتماعي, كان قاوم الضغوط السياسية المجترئة على مدخرات الأردنيين, وحال دون تسرّب المزيد من الاستثمارات الوطنية للرأسمال الأجنبي, في ممانعة صريحة ضد الكمبرادورية.
القول بأن شرف من اتباع المدرسة الليبرالية الإقتصادية ويتمتع بالنزاهة في الوقت ذاته, هو مديح لليبراليين لا يتسق مع تجربتهم المعروفة في بلدنا.ولا تنتهي الدعاية لهؤلاء عند هذا الحد, فشرف له حيثية اجتماعية سامقة, ستجعل من الليبراليين سعداء بتعميده, في تصريح رسمي, واحدا منهم.
شرف من الليبراليين الجدد? أنا شخصيا لا أعرف آراءه الاقتصادية الاجتماعية, لكنني لم أجد في تصريحات البخيت ما يثبت ذلك عيانيا. أين هي الملفات التي تظهر شرف معطلا لسياسة السوق الاجتماعي? بل أين هي هذه السياسة التي ما يزال معظمها أفكارا في عقل البخيت, وربما لن يكون لديه الوقت لتطبيق بعضها. هل دعا شرف إلى رفع أسعار المشتقات النفطية? ليس ذلك قراره. وهل رفض الخطط التنموية للمحافظات? فأين هي هذه الخطط وكيف عطّلها الرجل? وأخيرا, هل ينتمي خليفة شرف في منصب محافظ البنك المركزي إلى التيار اليساري? وهل هو من المقاتلين في سبيل المدرسة الاجتماعية? أم انه مجرد " متعاون". لم يقل لنا رئيس الوزراء ذلك.
ليعذرني الدكتور معروف البخيت, فإن أمانتي للفكر اليساري الاجتماعي الذي عشت حياتي كلها لإعلاء كلمته, تمنعني, اليوم, من القبول باستخدام مفرداته لتبرير قرار غامض ينتمي إلى السياسة اليومية.
ما حدث ¯ بغض النظر عن الأسباب والمبررات ¯ هو إجبار شرف على تقديم استقالته من دون مقدمات, وفي ظروف لم تستطع تصريحات رئيس الوزراء تبديد غموضها, بحيث يظل هنالك احتمالان أحلاهما مر, أولهما, أن يكون قرار إقالة شرف هو قرار حكومة البخيت, فكيف تقوم, والحالة هذه, حكومة معنية باستعادة استقرار المؤسسات وهيبة الدولة, باتخاذ قرار التبديل في منصب سيادي رئيسي من دون مسوغات واضحة ومحددة, وخلافا للقانون, وبصورة مفاجئة وملتبسة, وبإجراءات مشوبة بالاضطراب والمظاهر الأمنية?
وثانيهما, أن يكون القرار ذاك قد هبط على الحكومة, وقبلت هي تنفيذه. فتكون, بذلك, قد تخلّت طوعا عن صلاحياتها في الولاية العامة, وتورطت في تنفيذ قرار سياسي عاجل ليس بقرارها, ولا يعبر عنها, تكرارا للنهج المعروف في إدارة السياسات في بلدنا. بذلك, يكون مبدأ الولاية العامة للحكومات, الذي يشكل تكريسه نقطة جوهرية على البرنامج الإصلاحي, قد تم انتهاكه مجددا.
إن أسوأ ما عشناه في حقبة الليبرالية الإقتصادية وسيطرة البزنس, هو سيطرة مصالح المستثمرين على القرار السياسي, ومن ثم سيطرة القرار السياسي على القرار الإقتصادي والمالي في دائرة خبيثة هي المسؤولة عن الفشل التنموي وهدر الموارد والفساد الكبير. والآن, هل توسعت هذه الدائرة لتشمل المساس بالبعد النقدي أيضا من خلال التدخّل في قرارات البنك المركزي ? سؤال ما يزال مطروحا.