السودان ، دولة الردة والتكفير والتفتيش !
استغرب ما نشرته صحيفة الأهرام اليوم السودانية ، بتاريخ 14-9-2011 ، في خبر مفاده : أن الشرطة في منطقة مايو بجنوب الخرطوم ، قامت بإلقاء القبض على جماعة تتشكل من 139 رجلا وامرأة ، حولوا للمحكمة ووجهت إليهم اتهامات بالردة ، بسبب اعتناقهم طريقة دينية يطلقون عليها اسم " القرآنيين ".
وبغض النظر عن نقل الصحيفة لوصف المتهمين لطريقة العبادة التي يؤديها هؤلاء الجماعة ، فأنني اعتقد إن السودان باستمراره باستعمال سيف التكفير والردة ، في قمع جماعات تتبنى أفكار تختلف مع القاعدة والتكفير والإسلام السِياسي الذي يلجا إلى العنف والدماء ، فانّه ينزلق في فتنة ومنحنى خطير جدا ، يقوده إلى بحر من التناحر وسفك الدماء في شماله بعد انفصال جنوبه ، وهو ما حذرنا منه ولا زلنا نحذر منه ، خوفا على السودان والبشير الذي نحب وما تبقى من السودان أرضا وشعبا .
والواقع إن محاكمات الردة ليست تقتصر آثارها التدميرية على هؤلاء الجماعة – القرآنيين - فحسب ، بل تبعث على القلق لأسباب متنوعة : هو أولا خوف داخلي محلي ، وآخر خارجي دولي ، حيث يتوقع أن محاكمات التكفير ستطال كل الفئات والجماعات المعارضة والمؤيدة ، بل جميع الأطياف ، وما أكثرها في السودان التي تعتبر هند العرب في التعدد والتنوع ، فضلا عن أنها – أي المحاكمات - تبعث على مخاوف دولية لأنها تشكل مخالفة وخرقا واضحين للديمقراطية و حجرا للحريات وتعديا عليها ومخالفة لحقوق الإنسان ، وخاصة المادة ( 18 ) من العهد الدولي الإنساني التي تنص على حرية الإنسان في المعتقد .
وقد أعادتني صورة محاكم الردة إلى العصور الوسطى حيث استخدمت البابوية محاكم التفتيش ، للقضاء على الحركات الدينية التي خرجت عن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية ، و لمحاربة المسلمين واليهود في اسبانيا بتهمة الهرطقة أو الردة .
وقد مارست محاكم التفتيش هذه أعمالها بشدة وعنف وباتت تطلق الإحكام الجماعية بإحراق المتهمين أحياء واستخدمت وسائل التنكيل والتعذيب ومصادرة الممتلكات لإكراه المتهم على الاعتراف ، لكون المحاكمة سرية وإحكامها غير قابلة للاستئناف والطعن والدفاع .
كما ويذكر أن أعضاء محكمة التفتيش تمتعوا بثروات ضخمة جدا ناتجة عن مصادرة أموال المتهمين وممتلكاتهم ، وكانوا يعيشون حياة ترف ورخاء ، وأما عن ضحايا المحاكم فقد بلغت الآلاف وتجاوزت حدا كاد يوازي ما خسرته المسيحية في حروبها الصليبية المنظمة .
إن أهم الصور الحية لإجراءات محكمة التفتيش عند تنفيذ أحكامها تلك التي كان يطلق عليها اسم "أفراح الموت" حيث كان المرتدون يحرقون أحياء أمام الناس وأمام لجنة التفتيش...حتى وصلت إلى حد الإبادة الجماعية لأنها كانت تشمل الأطفال والنساء وعائلات بأكملها..
اعتقد إن محاكمات الردة في السودان اليوم ما هي إلا صورة من صور محاكم التفتيش في العصور الوسطى تستفيد من تجربتها ، ومظهر من مظاهر حرب التكفير والقاعدة ، تقود دفتها في العالم السلفية التكفيرية الضالة ، تسيء للإسلام وتفض عذرية سماحته ، وينشر فكرتها أتباعها العمات ، ويساندهم أعداء الإسلام ، لخلق وتعظيم حالة الاسلاموفوبيا العالمية وهم يخلطون حابل الحق بنابل الباطل ، واليوم قد تسللت الفكرة إلى مؤسسات السودانية إلى حين غفلة من الدولة السودانية وأجهزتها ، وعلى حين غرّة من مواجهة الدولة وانشغالها بسيل هائل من المشاكل الداخلية والخارجية التي شلّت حركة التطوير والإصلاح .
لقد مضى على انتشار نهج التكفير والردة في السودان سنوات عديدة ، ضيقت على الناس وحجرت عقولهم ، وكرست التخلف ، ثم صلت وكوت العديدين بنارها ، وأسالت دماء الكثيرين بإحكامها وإعداماتها ، وأدت إلى هجرة العقول والأدمغة ورأس المال وأنهكت الاقتصاد وفاقمت مشاكل الفقر والتخلف ووسعت الهوة بين فئات المجتمع ، وتستمر لليوم لتحرق الأخضر واليابس ، معتقدا أنها ستطال البشير نفسه في يوم ما إن لم يتصدى لها ، وهي حقيقة واقعة لان سوطهم مصلت على كل من خالفهم الرأي !
نحذر الرئيس البشير من خطورة محاكم التكفير التي تصادر حق الإنسان في حريته في معتقده وتحرف دين الله وتخالف منهجه في أن " لا اكره في الدين .. " وفي حرية المعتقد "... ومن شاء فليكفر " وتستند على حديث مختل مضطرب " من بدل دينه فاقتلوه .." وهو حديث لا يحدد أي دين يبدله المرء بعينه ليستحق القتل ، فهو يفيد مثلا أن من بدل دينه من الكفر أو الهندوسية أو البوذية إلى دين اليهودية أو المسيحية أو حتى دين الإسلام استحق القتل !
ثم أن أكراه الناس يتنافى مع الإيمان لان المرء قد يشهد الإسلام بالظاهر والإكراه ويعتنق غيره من الاعتقادات ، والنفاق ، الأخطر على الإسلام ، في الباطن !
ندعو الفريق البشير على وجه السرعة الطارئة الحزم والجزم والوقوف أمام مسؤولياته التاريخية للتأسيس لنهج الدولة المدنية الحديثة القائمة على التعددية ، وان يقطع دابر فتنة محاكم الردة والتكفير وجلد النساء ومصادرة الرأي وحرية المعتقد ، وان يعمل على تسريع خطوات الانفتاح والإصلاح والديمقراطية ، وإشاعة الحريات ، واحترام الرأي والرأي الآخر ، وحماية حقوق الإنسان ، وهو السبيل الوحيد لصناعة الدولة المدنية الحديثة التي تنافس على مصاف الدول الحديثة ، بيد أن السودان يمتلك كل الثروات والإنسان باستثناء دولة مدنية تديرها المؤسسية الحديثة .