لماذا نزعة التخريب..؟!
اخبار البلد-
في سياق التعريف الحاسِد بتفوق الغرب، شارك بعض الأصدقاء أشرطة "يوتيوب” عن الحمامات العامة في ألمانيا. وهي مرافق صحية فائقة النظافة والترتيب، تُستخدم بأجر رمزي يُدفع آلياً، وتقوم بتنظيم نفسها في دقيقة بعد كل استخدام. ولا بُدّ أن يتذكر المشاهد غياب مثيلات هذه المرافق الضرورية في مدننا وأماكننا السياحية. وفي الحقيقة، يبدو أن أحداً من المسؤولين لا يستمع إلى اقتراحات المواطنين وشكواهم من غياب هذه المرافق –أو سوء أحوالها إن وُجدت.
لكنَّ ثمة فكرة مزعجة تخطر في البال لدى تأمل هذه المسألة. هل لو وفرت الجهات المعنية، أو تعاقدت مع متعهد، لتوفير مرافق صحية في الشوارع والمتنزهات بهذه السويّة الأوروبية، ستسلم من أيدي العابثين؟ ربما يكون تعبير "العابثين” غير دقيق، لأنه قد يقترح قلة ناشزة. والحقيقة أن هناك أكثر من اللازم من الناس الذين سيتطوعون لتخريب هذه المرافق وتحويلها إلى أطلال في زمن قياسي. هل يتذكر أحد كابينات الهواتف العامة في شوارعنا قبل سنوات، وكيف كانت دائماً بلا سماعات ولا أقراص؟ ألا نلاحظ الحواجز الحديدية في الجُزر الوسطية في الشوارع، التي تهدف إلى حماية الناس من الدهس، والمقصوصة دائماً لعبور الشوارع من أخطر الأماكن –وكثيراً تحت الجسور أو فوق الأنفاق؟ هل ينجو أحد من سلوك الرعاع السائد في السياقة والاعتداء على القانون والذوق واللباقة –خاصة في أزمات السير وأماكن الانشاءات؟ وماذا عن أكوام القُمامة التي يتركها المتنزهون في الغابات وكأنها بيت ضرة الوالدة؟
أتذكر من الشباب رحلة إلى إربد في حافلة نقل عامة بمواصفات سياحية. يومها جلس إلى جانبي شاب استخرج مشرطا وشرع في تقطيع الشبكة المخصصة لوضع الأغراض في ظهر المقعد الأمامي، ثم انتقل إلى أجزاء أخرى من المقعد. وقد تفاجأت بسلوكه في الحافلة، الذي تناقض تماماً مع كياسته وكرمه عندما سألته عن العنوان الذي أقصده في مدينته، فأصر على مرافقتي بنفسه إلى موقف "السرفيس” المناسب وتوصية السائق بايصالي إلى وجهتي. هذه هي الشخصية الاجتماعية المتناقضة تماماً في البلد، والتي لا تستطيع أن تراهن على ثباتها في المواقف المختلفة.
أتصور أنه لا مبالغة في الاعتقاد بأن الحمام العام الألماني، الذي يعمل بطريقة إلكترونية ويمتاز بمنتهى الفخامة والترحيب، لن يصمد 48 ساعة هنا قبل أن تتلف أزراره، وتخرب أبوابه، وتتلطخ أرضياته وجدرانه، وتتعطل ماكناته. ويحتار المرء في أين يضع اللوم، على المسؤولين الذين يهملون توفير الخدمات، أم على الكثرة الغريبة في الأفراد الذين يتطوعون لتعطيل الخدمات وكأنهم ينتقمون من أنفسهم.
ما الذي يدفع الناس إلى الحفاظ على مرافق الخدمات العامة في بلدانهم؟ ربما ترتبط المسألة أساسا بشيئين: الانتماء الناجم عن إحساس الفرد بأنه شريك حقيقي في هذه المرافق ومالِك لها؛ والامتثال للقانون. ويرتبط النزع إلى التخريب غالباً بالسأم والإحباط والرغبة في الانتقام من شيء ما. لذلك، مثلاً، يحطم البعض واجهات المحلات والسيارات في أماكن الاحتجاج من دون تفسير منطقي. وأتصور أن الناس الذين يحبون بلدانهم لأنها تمنحهم مستوى لائقا من العيش لا يميلون إلى التخريب.
وفي مسألة القانون، يغلب أن تكون المراقبة وضبط المخالفين والمخربين من أي نوع طريقة ناجعة لترسيخ عادات سلوكية تصبح مستقرة بمرور الوقت. مثلاً، لو كانت في شوارعنا كاميرات في كل مكان، تضبط المتنمرين من السواقين وتغرّمهم وتهدد رخصهم من دون إمكانية للإفلات بالمخالفة، لتلاشى المخالفون غالباً. ولو أنشئت حمامات عامة أو كابينات هواتف، مثلا، وثُبتت عليها كاميرات من الخارج ترصد المخرب وتضبطه وتجلبه للمحاسبة، لكف الغالبية عن العبث. ولو صُوِّر الذين ينثرون القمامة في المتنزهات وحوسبوا، لقلوا أيضا.
من المؤسف أن تكون الرقابة الصارمة على الناس مطلبا، لكنّها ضرورية على ما يبدو حين لا تعمل الضوابط الفردية وحين تسود الفوضى السلوكية وتختل المعايير. ويجب أن يكون هذا مصحوبا بالأهم: العناية بصناعة الانتماء الحقيقي للبلد –ليس بالخطابات والشعر، وإنما بالإشراك الحقيقي للناس في أوطانهم وتوفير الفرص لهم والتقليل من عوامل تغريبهم. وسوف تكون الرقابة مقبولة إذا كانت في إطار تطبيق حكم القانون، مع وفاء الدولة بحصتها من الواجبات تجاه مواطنيها. ربما عندئذٍ تتلاشى ثقافة التخريب.
لكنَّ ثمة فكرة مزعجة تخطر في البال لدى تأمل هذه المسألة. هل لو وفرت الجهات المعنية، أو تعاقدت مع متعهد، لتوفير مرافق صحية في الشوارع والمتنزهات بهذه السويّة الأوروبية، ستسلم من أيدي العابثين؟ ربما يكون تعبير "العابثين” غير دقيق، لأنه قد يقترح قلة ناشزة. والحقيقة أن هناك أكثر من اللازم من الناس الذين سيتطوعون لتخريب هذه المرافق وتحويلها إلى أطلال في زمن قياسي. هل يتذكر أحد كابينات الهواتف العامة في شوارعنا قبل سنوات، وكيف كانت دائماً بلا سماعات ولا أقراص؟ ألا نلاحظ الحواجز الحديدية في الجُزر الوسطية في الشوارع، التي تهدف إلى حماية الناس من الدهس، والمقصوصة دائماً لعبور الشوارع من أخطر الأماكن –وكثيراً تحت الجسور أو فوق الأنفاق؟ هل ينجو أحد من سلوك الرعاع السائد في السياقة والاعتداء على القانون والذوق واللباقة –خاصة في أزمات السير وأماكن الانشاءات؟ وماذا عن أكوام القُمامة التي يتركها المتنزهون في الغابات وكأنها بيت ضرة الوالدة؟
أتذكر من الشباب رحلة إلى إربد في حافلة نقل عامة بمواصفات سياحية. يومها جلس إلى جانبي شاب استخرج مشرطا وشرع في تقطيع الشبكة المخصصة لوضع الأغراض في ظهر المقعد الأمامي، ثم انتقل إلى أجزاء أخرى من المقعد. وقد تفاجأت بسلوكه في الحافلة، الذي تناقض تماماً مع كياسته وكرمه عندما سألته عن العنوان الذي أقصده في مدينته، فأصر على مرافقتي بنفسه إلى موقف "السرفيس” المناسب وتوصية السائق بايصالي إلى وجهتي. هذه هي الشخصية الاجتماعية المتناقضة تماماً في البلد، والتي لا تستطيع أن تراهن على ثباتها في المواقف المختلفة.
أتصور أنه لا مبالغة في الاعتقاد بأن الحمام العام الألماني، الذي يعمل بطريقة إلكترونية ويمتاز بمنتهى الفخامة والترحيب، لن يصمد 48 ساعة هنا قبل أن تتلف أزراره، وتخرب أبوابه، وتتلطخ أرضياته وجدرانه، وتتعطل ماكناته. ويحتار المرء في أين يضع اللوم، على المسؤولين الذين يهملون توفير الخدمات، أم على الكثرة الغريبة في الأفراد الذين يتطوعون لتعطيل الخدمات وكأنهم ينتقمون من أنفسهم.
ما الذي يدفع الناس إلى الحفاظ على مرافق الخدمات العامة في بلدانهم؟ ربما ترتبط المسألة أساسا بشيئين: الانتماء الناجم عن إحساس الفرد بأنه شريك حقيقي في هذه المرافق ومالِك لها؛ والامتثال للقانون. ويرتبط النزع إلى التخريب غالباً بالسأم والإحباط والرغبة في الانتقام من شيء ما. لذلك، مثلاً، يحطم البعض واجهات المحلات والسيارات في أماكن الاحتجاج من دون تفسير منطقي. وأتصور أن الناس الذين يحبون بلدانهم لأنها تمنحهم مستوى لائقا من العيش لا يميلون إلى التخريب.
وفي مسألة القانون، يغلب أن تكون المراقبة وضبط المخالفين والمخربين من أي نوع طريقة ناجعة لترسيخ عادات سلوكية تصبح مستقرة بمرور الوقت. مثلاً، لو كانت في شوارعنا كاميرات في كل مكان، تضبط المتنمرين من السواقين وتغرّمهم وتهدد رخصهم من دون إمكانية للإفلات بالمخالفة، لتلاشى المخالفون غالباً. ولو أنشئت حمامات عامة أو كابينات هواتف، مثلا، وثُبتت عليها كاميرات من الخارج ترصد المخرب وتضبطه وتجلبه للمحاسبة، لكف الغالبية عن العبث. ولو صُوِّر الذين ينثرون القمامة في المتنزهات وحوسبوا، لقلوا أيضا.
من المؤسف أن تكون الرقابة الصارمة على الناس مطلبا، لكنّها ضرورية على ما يبدو حين لا تعمل الضوابط الفردية وحين تسود الفوضى السلوكية وتختل المعايير. ويجب أن يكون هذا مصحوبا بالأهم: العناية بصناعة الانتماء الحقيقي للبلد –ليس بالخطابات والشعر، وإنما بالإشراك الحقيقي للناس في أوطانهم وتوفير الفرص لهم والتقليل من عوامل تغريبهم. وسوف تكون الرقابة مقبولة إذا كانت في إطار تطبيق حكم القانون، مع وفاء الدولة بحصتها من الواجبات تجاه مواطنيها. ربما عندئذٍ تتلاشى ثقافة التخريب.