تجاربنا مع المقاطعات والحصار وفرض العقوبات
تجاربنا مع المقاطعات والحصار وفرض العقوبات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدكتور: رشيد عبّاس
بغض النظر عن اللفظ سواء كان مقاطعة ام حصار ام فرض عقوبات ام تضييق, فان جميع هذه المفردات والمصطلحات في النهاية تدل على شيء واحد هو «العزل» عن العالم الاخر وعن المحيط من اجل الاذلال والتجويع والتركيع ومن ثم تحقيق جملة من الاهداف المرسومة,..التاريخ القديم والحديث شهد وما زال يشهد نماذج واشكال وصور من المقاطعة والحصار والعقوبات والتضييق, بعضها استمر أيام واسابيع, وبعضها الاخر استمر اشهر وسنوات, والسؤال الكبير هنا ما هي النتائج النهائية والمترتبة على مثل هذه النماذج والاشكال والصور الخاصة بـ«العزل» عن العالم الاخر وعن المحيط؟
(مقاطعة) الجامعة العربية للحركة الصهيونية, حيث قاطعت الجامعة العربية السلع، والخدمات الإسرائيلية منذ تأسيس الحركة الصهيونية عام 1948م، من أجل عزل الحركة الصهيونية اقتصادياً، وعدم تشجيع الهجرة اليهودية إلى الشرق الأوسط، وتكونت المقاطعة من ثلاثة أجزاء هي مقاطعة استيراد السلع، والخدمات التي تصنعها الحركة الصهيونية, وحظر القيام بأعمال تجارية مع أي شخص يقوم بأعمال تجاريّة مع الحركة الصهيونية, ثم منع القيام بأعمال تجارية مع أي أحد على قائمة الجامعة العربية السوداء,...ونتساءل هنا ما هي النتيجة اليوم؟
ثم ان الولايات المتحدة الامريكية فرضت (عقوبات) على إيران في عام 1979م بعد أن قامت مجموعة من الطلاب المتطرفين بمهاجمة السفارة الأمريكية في طهران, وقد نتج عن هذه الحادثة تجميد كامل الأصول الإيرانية, وبعد بضع سنوات تم تشديد العقوبات عليها, ثم في عام 1984م فرضت امريكا عقوبات على بيع الأسلحة لإيران، وكذلك فرض عقوبات على المساعدات الاقتصادية عليها, وفي عام 1996م، فرضت امريكا ايضا عقوبات على تجارة النفط بين إيران والولايات المتحدة، كما تم عقوبات على تصدير معدات الطيران إلى هذا البلد, وفي عام 2004م فرضت امريكا عقوبات على نشر الأبحاث العلمية الإيرانية، فضلاً عن عقوبات على الاتصالات المباشرة بين البنوك الإيرانية والأمريكية,...ونتساءل هنا ما هي النتيجة اليوم؟
و(الحصار) الخانق الذي قامت به إسرائيل على قطاع غزة إثر نجاح حركة المقاومة الإسلامية حماس في الانتخابات التشريعية في عام 2006م قبل دخول حماس غزة بعام، ثم عززت إسرائيل الحصار في عام 2007م بعد سيطرة حماس على غزة في حزيران عام 2007م وقد شمل الحصار على منع أو تقنين دخول المحروقات والكهرباء والكثير من السلع، من بينها الخل والبسكويت والدواجن واللحوم ومنع الصيد في عمق البحر، وغلق جميع المعابر والمنافذ بين القطاع وإسرائيل,...ونتساءل هنا ما هي النتيجة اليوم؟
كذلك المدقق في التاريخ يجد ان عزلاً ثلاثي الابعاد, تمثل في المقاطعة, والحصار وفرض العقوبات التي قامت بها (شلة) من الأحزاب والمتمثلة بمجموعة من القبائل العربية المختلفة التي لم تعلن اسلامها بعد على المسلمين في المدينة المنورة عام627م, والتي استمر هذا العزل الثلاثي الابعاد لمدة ثلاثة أسابيع والتي تعادل اليوم ثلاث سنوات بتمامها وكمالها حيث الامكانات, وقد سمي ذلك العزل الجائر للمسلمين بغزوة الخندق او بغزوة الأحزاب,...ونتساءل هنا ما هي نتيجة هذه الغزوة ثلاثية الابعاد على تأسيس الدولة الاسلامية لاحقا في شبه الجزيرة العربية؟
تجاربنا مع المقاطعات والحصار وفرض العقوبات والتضييق على مر التاريخ البشري, تجارب ينبغي التوقف والوقوف عندها مليّاً, ثم اخذ الدروس والعبر منها, فقد حوّلت الحركة الصهيونية تبعات مقاطعة الجامعة العربية لها الى مكاسب حقيقية تُرجمت الى تأسيس اكبر اقتصاد صهيوني في العالم, وحوّلت ايران تبعات فرض العقوبات الامريكية عليها الى مكاسب حقيقية تُرجمت الى تخصيب اليورانيوم في ايران, وحوّلت حركة حماس تبعات حصار الاسرائيليين عليهم الى مكاسب حقيقية تُرجمت الى صواريخ حماسية تملكها المقاومة, وحوّل المسلمون الحقيقيون تبعات العزل ثلاثي الابعاد, المقاطعة والحصار وفرض العقوبات والتضييق التي قامت بها شلة من الأحزاب في غزوة الخندق الى مكاسب حقيقية تُرجمت الى بناء دولة نظيفة من (البدع) في شبه الجزيرة العربية.
على «ترامب» مراجعة كتب التاريخ مراجعة دقيقة, فربما يأتي اليوم الذي قد نسمع فيه ان بعض الاصوات تنادي بطرح واستقطاب عروض سياسية من اجل مقاطعة تلك الاصوات او حصارها او فرض عقوبات عليها, كي تنهض من جديد وتفيق من سباتها العميق, كيف لا والمقاطعات والحصار وفرض العقوبات والتضييق التي عاشتها الشعوب عبر التاريخ الماضي والحاضر كانت سببا على المدى البعيد في الابداع بنوعيه المادي والفكري.
المفكر الفرنسي «جاك دريدا» والمثير للجدل، طالب المفكرين الفرنسيين الاخرين يوما من الايام ان يضيّقوا عليه افكاره, هل تعرفون لماذا؟ ...من اجل ان يكون اكثر ابداعا في طروحاته الفكرية, على حد تعبيره!
بقي ان نقول: تجاربنا مع نتائج المقاطعات والحصار وفرض العقوبات والتضييق, تتلخص بقوله تعالى: (فإن مع العسر يسرا, إن مع العسر يسرا),...والبقية في آيات سُورة الشّرح.