مجلس النواب .. والخروج من عباءة السلطة التنفيذية !

 

... الأردن ليس مزرعة لأحد, وليس إقطاعية يملكها إقطاعي يتفرد بالإنفاق كيفما شاء, وظاهرة إنفاق المال العام في الأردن دون وجه حق على السادة النواب أو غيرهم ليست بالظاهرة الجديدة التي تضاف إلى الظواهر السلبية الكثيرة في بلادنا التي مارسها بعض رؤساء الوزراء السابقين لتحقيق أهداف تتعلق بمنح الثقة او تمرير قانون الموازنة او دعم مرشح الحكومة في المجلس او غيره من القوانين التي كثيرا ما كانت تنعكس سلبا على حياة المواطن وتشوه من صورة المجلس كمؤسسة تشريعية في البلاد, ولا ندري ماهي الأسباب التي دفعت رئيس الوزراء مؤخرا إنفاق آلاف الدنانير وزعت على بعض نواب الأمة لأسباب لا زلنا نجهلها بعد أن افتضح أمرها ولكنها لا يمكن أن تكون ضمن برنامج تحسين الحال المعمول به للوزراء الجدد, وقد يكون فخاً ُنصب بعناية يراد منها إشعال المزيد من النار حول هذه الحكومة التي تخرج من مأزق ليتم إدخالها بمأزق جديد يزيد من مطالبة الشارع برحيلها, وباتت الحكومة التي يمكن تسميتها بحكومة المراهقين السياسيين بسبب ممارساتها غير العقلانية وتكرار أخطائها عاجزة عن اتخاذ قرار حكيم حتى في هذه المسألة, ولم تتعلم من تجارب الآخرين ولم تلتفت للواقع والظرف الذي تعيشه البلاد, فهم بتلك الممارسات يمنحون من يريد اصطياد أخطاء هذه الحكومة والتعجل برحيلها فرص عديدة لإشعال النار حولها بالرغم من جملة إنجازات حققتها الحكومة الحالية ونفذتها .

كانت قوانين البلاد ولا زالت تحارب ظاهرة استخدام ألرشي أو ما يعرف بالمال السياسي الذي كان ينفقه بعض المرشحين بغية الحصول على أصوات الناخبين في الانتخابات التي تجري في البلاد, وهاهي الحكومات تمارس بل وتمعن في إنفاق المال السياسي كلما أرادت تحقيق هدف, والحالتان متشابهتان في ألتعد على القانون ونشر ثقافة محرمة شرعا ومدانة أخلاقيا .

وبعيدا عن تحليل أسباب حصول البعض على عشرة ألاف دينار و حصول أخر على ألفي دينار وحرمان أحرين كما يشاع لأسباب يعلمها البخيت وحده دون الناس, فأن الفكرة مرفوضة جملة وتفصيلا, فهي تتعلق بإنعكاسات سلبية اجتماعية وسياسية على صورة البلاد عموما وعلى صورة البرلمان وقيمته المعنوية الكبيرة من وجهة نظر أبناء الوطن في الداخل والمجتمع الدولي عموما, فكيف يمكن الحفاظ على صورة طيبة رفيعة لمؤسسة وطنية تشريعية ورقابية كبيرة في ضل تلك الممارسات التي لا يقبلها عاقل, وبالتالي فأن الصورة الكامنة في عقول الناس تجاه هذه المؤسسة بدأ ينخفض الى أدنى درجة حتى باتت قيمة عضوية مجلس النواب في أدنى درجاتها, هذا الى جانب ممارسات سابقة دفعت الناس للخروج والمطالبة برحيله، وكذلك فأن هذه الأموال المحرمة التي تنفق دون وجه حق تضع النواب في إحراجات أمام ناخبيهم, ويطرح الناس تساؤلات عديدة حول أسباب توزيع تلك الأموال من جهة, و حول أحقية حصول النائب على تلك المبالغ التي لا يمكن ان تكون لوجه الله تعالى .

الغريب في الأمر أن أحدا من النواب لم يهاجم تلك السياسة إلا القليل منهم, ولم يتطرق إليها بتحليل لما تؤديه من إضعاف وتغول للسلطة التنفيذية على المجلس التشريعي والتي تؤدي بالفعل إلى تدني قيمة المجلس وقيمة عضوية المجلس الذي ارتضى البعض أن يتم اصطياده بتلك الطريقة, كما ولم يفكر أحد بوضع حد لمثل تلك الأفعال للحفاظ على ما تبقى من هيبة المجلس كمؤسسة وطنية تشريعية تعكس صورة طيبة للحالة الديمقراطية في الأردن, ومن اجل الحفاظ على ما تبقى من ماء وجه الأعضاء أنفسهم .

وأما من وجهة نظر سياسية واجتماعية, فلا يجوز تحت أي أجندة أو أي هدف أن يكون نائب الأمة عرضة لمثل تلك المواقف, ولا يجوز ان تتلطخ صورة البرلمان الأردني وهو عماد مؤسساتنا الديمقراطية وكأنه مؤسسة استثمارية توزع فيه الأرباح على الأعضاء , وهي صورة اعتقد أن الحكومات سعت جاهدة ولا زالت من أجل إضعافها أمام الناس كافة واعتبار أن البرلمان في هذه الحالة هو ُجزء لا يتجزاء من مؤسسات السلطة التنفيذية التي تحاول جاهدة تطويعها وإخضاعها لبرامجها وسلطتها وتضعف من قيمتها الفعلية ليتسنى للحكم التفرد والإمساك بزمام الأمور واللعب وحيدا دون رقابة او سلطة تضيق عليه الخناق او تحد من حريته, وقد بدأ ذلك جليا في سلسلة ممارسات رسمية حدت من قوة ونفوذ المجلس تمثل في إقرار قانون الصوت الواحد والقوائم الوهمية والتلاعب في الانتخابات وتزوير إرادة الناس والابتعاد عن نظام المحاصصة للأحزاب والمستقلين وإقصاء الرموز والشخصيات الوطنية, مما أوصل البرلمان إلى حالات من الضعف والترهل وانخفاض الإنتاجية والاحتراب بين الكتل التقليدية المحافظة اضطر فيها النظام لحل المجلس أكثر من مرة دون ان يكمل حتى عامه الثاني, وفشلنا بسبب تلك السياسات من تقديم النموذج الامثل للحالة البرلمانية والديمقراطية الأمثل في المنطقة, بل ان بعض البرلمانات في الدول المجاورة لها من الهيبة والسلطة ما يخشى منها الحاكم والحكومات وتلقى دعم ومساندة واحترام الشعب لها لأنها وتمنح البلاد قوة ومهابة من أية تدخلات أو إملاءات خارجية .

يبدو ان الحكم يمارس طقوسا سياسية واجتماعية واقتصادية بعيدة كل البعد عن الواقع المعاش في كل أنظمة الدول الديمقراطية او حديثة العهد بها, ولا زالت ممارسات الحقبة العرفية تطل برأسها بين الفينة والأخرى, فهل يعقل أن نستمر بتلك الممارسات التي لا تشوه وجه مؤسساتنا التشريعية فحسب, بل وكل مؤسساتنا العاملة في الدولة في وقت نتحدث فيه عن إصلاحات شاملة تطال كل مؤسساتنا التنفيذية والتشريعية والقضائية وتغييرات تطال الدستور الأردني تمهيدا للانتقال الى مرحلة جديدة من حياة الوطن .

الأكثر غرابة في هذا السلوك غير المسئول في أنه يأتي في وقت تعيش فيه البلاد أزمات مالية عظيمة تهدد أمن واستقرار البلاد تدفعنا كالعادة لطلب الهِبات والمساعدات من دول الجوار والدول الصديقة ! فكان الأجدى هو إنفاق تلك الأموال للمساعدة في تطوير مشاريع تنموية في محافظاتنا المهمشة في مجالات صحية وتعليمية وخدماتية هي أحوج ما تكون إليها ضمن خطة تعدها الحكومة لدراسة تلك الحالات !

على الحكومة التوقف عن تلك الممارسات, وعلى أعضاء المجلس من غير المتكسبين والرافضين لذلك المنهج طلب تعديلات دستورية تعالج هذا الخلل من أجل وقف ألتعد على المال العام من جهة, ومن أجل الحفاظ على هيبة المجلس وهيبة أعضائه من جهة أخرى, بحيث يوضع سقفا محددا لا يجوز تجاوزه لنفقات رئيس الوزراء والوزراء والمدراء العامين, لأن الاستمرار بذلك المنهج هو تأسيس و ترسيخ لثقافة مرفوضة في كل الشرائع والقوانين والأعراف الديمقراطية التي قد تمهد الطريق لاعتبارها حالة أردنية مقبولة في كل المؤسسات إلى جانب حالات الفساد والترهل والمحسوبية التي باتت جزءا لا يتجزأ من المنظومة السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية المقبولة في الأردن !

خلاصة القول, إن ظاهرة إنفاق المال بتلك الطريقة وتحت أي مسمى دون قانون أو ضابط قد لعب دورا رئيسا في جعل السلطة التشريعية مؤسسة تابعة للسلطة التنفيذية وليست مستقلة عنها منذ عودة الحياة البرلمانية إلى البلاد 1989, وهي تؤسس لمنهج وثقافة تشوه صورة البلاد من جهة وتميع وظيفة السلطة التشريعية وتجعل منها ألعوبة بيد الحكومات إن استمرت بالتعاطي مع هذه السلوكات, وعلى أعضاء المجلس الدفاع عن مؤسستهم وسلطتهم التي باتت تتبع الحكومات بشكل أو بأخر من خلال تحريم مد اليد وطلب المعونة من الحكومة تحت أي مسمى إنساني او خدماتي هو في الأصل واجب الحكومات وليس منّة منها, وان يخرج النواب من عباءة الحكومة ومغادرة موقع الخدمات الذي ُوصم بهم منذ عقود والانتقال إلى موقعهم ووظيفتهم الأصلية في التشريع والرقابة الحقيقية وحينها ستستجيب الحكومات لأية مطالب أخرى تتعلق بالخدمات والتشريعات وغيرها مرغمة لا مختارة إن أراد الأعضاء العمل على إعادة الهيبة والرصانة والانضباط والاستقلالية لمجلس النواب وتقديم الأنموذج المثالي لحالة وطنية وديمقراطية ومؤسسية عالية القدر والقيمة .