الحاكم الزاهد في حكمه
اثناء قراءتي لقصة الملك الزاهد في ملكه والتي رواها ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي سيأتي ذكرها لاحقا ، ادركت السبب الرئيسي وراء استماتة الشعوب في الدول العربية للحفاظ على حكام هذه الدول ، والحرص الشديدعلى ابقائهم في سدة الحكم الى ما شاء الله ،
بل والذهاب الى ابعد من ذلك من خلال الحرص على توريث كراسي الحكم لابناء هؤلاء الحكام في حال ترك اي منهم للحكم بسبب الوفاه ، وذلك بسبب الجينات الوراثية النادرة التي يمتلكها هؤلاء الحكام وابنائهم والتي تميزهم عن بقية ابناء الشعوب العربية ،
وبعد ان ادركت حقيقة ما يتمتع به هؤلاء الحكام من تقوى الله ومخافته ، وحقيقة نظام حكمهم الذي يقوم على ارساء اسس وقواعد العدالة والمساواة بين ابناء شعوبهم دون تمييز او تحيز ، ادركت ان شدة التقوى والايمان لدى هؤلاء الحكام ومخافتهم من التقصير في واجباتهم تجاه شعوبهم ، ومخافتهم من عدم القدرة على خدمة دينهم وابناء ملتهم بالشكل المطلوب الذي يجنبهم حساب رب الارباب يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، الذي لا تغيب عنه لا صغيرة ولا كبيرة الا احصاها ، هو السبب الرئيسي وراء اصرارهم على ترك سدة الحكم والترفع عن كراسي الحكم الدنيوية الزائلة الفانية ،
كيف لا وهذا هو زين العابدين رغم قيام شعبه بهذه الثورة العظيمة يطالبونه بأن لا يتخلى عنهم في اصعب الظروف والاوقات ليستمر العطاء والعدالة والانصاف والمساواة ورغد العيش ، الا انه فر في دينه الى السعودية وحالت جموع البلطجية دون وصول الشعب اليه ، وابى هذا الزعيم ان يستمر في حكمه رغم تمسك الشعب الشديد به ورغم الدماء النقية التي سالت لاجل بقاءه في الحكم ، الا انه رفض ان يستمر في الحكم مخافة الزلل والخطأ ،
وهذا ايضا حسني مبارك الذي ابى ان يستمر في حكمه رغم خروج الملايين من ابناء شعبه المطالبين ببقاءه في سدة الحكم ليستمر نسل فرعون العريق ولا ينقرض ، الا انه ورغم دفاع البلطجية عنه بكل ما زودوا به من المال والسلاح والخيل والحمير والجمال ، ورغم ما سال من دماء هذا الشعب الطيب الفقير الا انه ابى الا ان يعتزل الحكم ويفر بنفسه وماله وولده الى شرم الشيخ ،
وهذا معمر القذافي ايضا فر بدينه وماله ولا احد يعلم في اي جحر او وكر يختبىء وكل ذلك ايضا مخافة وتقوى من الله ، ليتجنب الخطأ والزلل ، رغم ان جنوده وفلول كتائبه ما زالوا يحولون دون وصول شعبه الثائر المتمسك بحكمه وحكمته التي ندر ما تجد مثلها عند بني البشر ،
وهذا عبدالله صالح ايضا من تقاة القلوب وزهاد زمانه ، كيف لا وقد استغل موضوع اصابته وعلاجه حجة ليفر بنفسه الى خير ارض الله واحب ارض الله الى الله ليلحق بزين العابدين ، رغم استمرار الثائرين المطالبين بعودته لسدة الحكم عن قرب خوفا عاى البلاد والعباد من الضياع الا انه آثر الاعتكاف في بيت الله العتيق تقربا لله وطمعا في رحمته ،
وهذا هو الاسد المغوار سبع الليل والنهار يشد مئزره ويجهز حقائبه ليلحق رفاقه ، هربا من مسئولية الحكم وتبعاته ، الا ان الشعب يمنعه من السفر ويضحي بالغال والنفيس ليضمن بقاءه في سدة الحكم حتى لو تطلب ذلك ابادة الشعب كله على ايدي شبيحته الشجعان الذين اللهوه وانفردوا بعبادته وجعلوه بمرتبة فرعون الاول الذي قال انا ربكم الاعلى فاعبدون ،
ومما سبق يتضح ان هؤلاء الحكام اعتبروا بما جاء عن السابقين من قَصَص قرآنية وقِصص نبوية وردت عن الامم السابقة على لسان خير البرية سيدنا محمد عليه افضل الصلاة والسلام ، وارادوا ان ينهجوا نهجهم ويسيروا على دربهم ، واليكم قصة الملك الزاهد واترك لكم الحكم يا اولي الالباب لعلكم تتقون .
عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سمع من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل استخلفوا خليفة عليهم بعد النبي موسى عليه السلام ، فكان هذا الملك رجلاً صالحاً يعمل جهده نهاراً في خدمة رعيّته ، ويقوم الليلَ تعبّداً لله سبحانه وتعالى . فقام مرة يصلي فوق بيت المقدس في ليلة مقمرة ، صفت فيها السماء ، وسبَحتْ فيها أشعّة البدر الفضّية ، وتلألأت النجوم في كبدها ، فازدادت بهاءً وجمالاً ، وبدأ يحاسب نفسه ، ويعرض عليها ما فعل في خدمة دينه و أبناء ملته ، ويقارن بين ما فعله ، وما يستطيع فعله ، وما يجب أن يفعله ، فوجد نفسه مقصّراً في واجباته نحوهم ، ولم يجد الجرأة أن يقول لهم : اختاروا غيري ، فأنا لا أصلح لكم ، فلربّما حسبوا ذلك منه صلاحاً ، فأبَوا عليه رغبته ، وازدادوا به تمسّكاً ، وقد يعتزل في بيته ، فلا يقبلون منه ذلك ، ويصرّون على عودته ، ولا يُفرّطون به ، وقد يخرج عنهم إلى إحدى القرى متعبّداً منعزلاً ، فيتبعونه ، ولا يُقيلونه . .. ماذا يفعل ؟ .. فكّر ، وقلّب الأمور ، فهداه تفكيره إلى الهروب بعيداً حيث لا يعرفه أحد .. ولكنّ الجنود يحيطون به ويحمونه ؛. فإذا خرج خرجوا معه ، وإذا أصرّ أن يمشي وحده تبعوه من بُعد خوفاً عليه ، فلا مجال للهرب من الباب ... نظر حوله ، فرأى حبلاً ، ربطه في سقف المسجد ، وتدلّى على الأرض ، وانطلق دون أن يشعر به أحد .. ولم يكتشف حرسه ما فعل إلا صباحاً حين استأخروه ، فصعدوا سقف المسجد فوجدوا الحبل ، ولم يجدوه ....
أسرع متخفـّياً إلى أن وصل إلى بلدة على شاطئ البحر ، فوجد بعض أهلها يضربون في الرمل لـَبْناً ، فإذا جفّ صار قطعاً صلبة يبنى الناس بها بيوتهم ، فقال لهم : علّموني صنعتكم ، فأعملَ معكم ، فأنا غريب . قالوا : على الرحب والسَّعة ، وصار يعمل معهم ، ويأكل من كسب يده . ..
وأنس الناس به ، إلا أنهم رأوا منه عجباً ، فقد كان إذا حضرت الصلاة قام يصلي ... ماذا يفعل الرجل ؟ ! إنه يقوم بحركات لا يعرفونها ، ويتلو مالا يفهمون ! ..
لم يكن الملك الزاهد يتخفّى حين يصلي ويعبد الله تعالى ، ولم يكن يخجل وهو في بلاد الغربة أن يخالف الناس فيما يعتقدون ! إنه ما ترك المُلْك وهرب منه إلا ليعبد الله عز وجل دون أن يتحمّل – على ضعفه – مسؤولية غيره ، لكنه قويّ في الجهر بعقيدته ودينه ! لا يخاف من أحد .. هو على حق ، وصاحب الحق داعية في خلقه وفي عبادته ، يجهر بها ، ويدعو إليها . لا يخشى مغبّة أمره ، والداعية كتاب مفتوح يقرؤه الجميع ، فيرون فيه الفضيلة والأسوة الحسنة والصواب ، فيتبعونه .
رفع العمال إلى كبيرهم حاكمِ البلدة ما رأوه وما يرونه من هذا الغريب الزاهد المتعبّد ، يصفون له ما يفعله ذلك الرجل الكريم الخُلُق . فأرسل إليه أن يأتيه ، فأبى أن يجيب . طلبه إلى مقابلته مرات ثلاثاً ، فأعرض عن إجابته
كان عليه - وهو الداعية - أن يلبي طلبه ويعرض عليه دينه ، فعسى أن يدخل فيه ، وكان عليه أن يقابله ويجيب عن أسئلته ، ويوضح له ما استغلق عليه وعلى عمّاله . لكنّ نقطة الضعف فيه ، هذه التي جعلته يهرب من بلده ، وينسلّ مبتعداً عن رعيّته تاركاً واجبه تجاههم بعد أن وثقوا به ، وسلموه مسؤوليتهم هي التي جعلته يخطئ مرة ثانية فيأبى الذهاب إلى حاكم البلدة .
فماذا يفعل حاكم البلدة العاقل ؟ .. جاء بنفسه .. جاء تحمله دابته .. فلما رآه الرجل فرّ ، فاتّبعه ، فأسرع هارباً ، فلما سبقه ناداه الحاكم : يا هذا ، انتظر ولا تخف . لا أريد بك سوءاً .. دعني أكلمك ! ..
فلمّا رأى الرجل أنه لا بد من الإجابة توقف حتى كلّمه ، وقصّ عليه خبره ز ولم يُخفِ عنه أنه كان ملكاً ، وأنه فرّ من الله إلى الله خوفاً أن يحمل تـَبـِعَة الحكم الثقيلة ، فهو ليس أهلاً لذلك ، فقد يخطئ ويظلم ، والظلم ظُلُمات يوم القيامة .
وقر في قلب الرجل الآخر ما قاله الأول ، وقال له : إني لأظنني لاحقاً بك ، سائراً على منوالك ،أنا مثلك يا أخي ، شغلتني الدنيا والعمل لها عن عبادة ربي ، فانقطعت لها ، وكدت أنساه ، ما أنت بأحوج إلى ما صنعتَ منّي . ... خذني معك ، فأنا منك وأنت منّي .. لسنا من أهل هذه الدنيا الفانية ، والعاقل يعمل للحياة الباقية .. هناك عند من لا يُخيّب سائله ، ولا يًضَيّع للعبد وسائله ، في كنف الله الكريم ..
نزل الرجل عن دابّته ، تركها لمن يريدُها ، ثم تبع صاحبه الذي رأى فيه الإخلاص لله تعالى ، والحب العميق لما عند الله .. تآخَيا في الله .. والحب في الله .. والتآخي فيه ذروة الإنسانيّة ، وقمّة السموّ ، إن السبب الذي يربطهما خالد أبديّ ، ليس لهوى النفس فيه مكان ... تنقطع جميع الأسباب الدنيَويّة ، ويبقى الحب في الله والأخُوّةُ فيه قوية متصلةً ، دائمة النماء ، يرويها النبع الثـّرّ على مرّ مدى الأيام ..
انطلقا يعبدان الله تعالى ، فعرفا طعم العبوديّة الرائق ، وعاشا في رحابها ما شاء الله لهما أن يعيشا ، وسألا الله تعالى أن يميتهما متجاورَين أخوين في الدنيا والآخرة .
قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : ماتا برُمَيْلة مصر ، لو كنت هناك لأريتُكم قبرَيْهما ... فقد وصفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنني أراهما رأْيَ العين .
رواه الطبراني في المعجم الكبير
ج 1- ص/216 والأوسط ج2ص/ 112