جدل الهوية: حتى لا يضطر الملك إلى التدخل في كل مرة

 


 


اختار جلالة الملك عبد الله الثاني مناسبة لقائه مع مجموعة من المثقفين والباحثين والأكاديميين ليقدم رؤية صريحة وبلا رتوش حول إشكالية الهوية في الأردن والتي بدأت تتجاوز ما هو مقبول من مبادئ الحوار الوطني المسؤول وتتحول إلى نوع من التحريض المسيء للوحدة الوطنية، وذلك استنادا إلى تصريحات ومقالات مختلفة زادها اشتعالا ما تسرب في وثائق السفارة الاميركية في عمان والمنشورة على موقع ويكيليكس منذ أيام معدودة.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الملك صراحة عن قضايا الهوية ومسألة الوطن البديل ولكن حديثه أول أمس تضمن النسبة الاعلى من المكاشفة والصراحة التامة نظرا لاستشعار الملك بأن ما يدور حاليا من جدل حول مسألة الهوية بات يحمل من المضامين السلبية ما هو أكثر من الإضاءات الإيجابية، ولهذا كان لا بد لرأس الدولة أن يتدخل واضعا النقاط على الحروف ومنحازا مع الأغلبية العظمى من المواطنين الأردنيين المؤمنين بأن الهوية الأردنية هي هوية جامعة، وذلك لسد الطرق على القلة التي تحاول إثارة النزعات المتطرفة وتحريض المواطنين ضد بعضهم البعض تحت عدة مبررات غير منطقية.

موقف الملك كان واضحا في تعزيزه للهوية الوطنية الجامعة في الأردن والتي كانت القاعدة الأساسية لبناء الدولة الأردنية وهي المبدأ الذي سوف يضمن استمرار هذه الدولة لجميع مواطنيها المخلصين لها والمؤمنين بها بغض النظر عن الأصول والمنابت. ان الانتماء في الدول الحديثة لا يتحدد بالأصول والمنابت بل بالعمل والإخلاص والمساهمة في بناء الدول والمجتمعات، ودولتنا الأردنية تدين في بنائها وقوتها إلى كافة مواطنيها من كل الأصول والذين يجتهدون لتعزيز استقلالية ونهضة الأردن في مختلف مواقعهم ما بين خطوط الإنتاج الاقتصادي وخطوط الدفاع عن السيادة وخطوط تقديم الخدمة العامة لجميع أبناء البلد.

من موقعه كرئيس لكل السلطات يوجه الملك رسالة نصح واضحة لمن يخوض في نقاشات الهوية الوطنية مفادها :» يجب أن نكون أكثر وعيا وحذرا، وأن نميز في خطابنا السياسي والفكري بين مناقشة الهوية الوطنية، وعدم السماح بأخذ هذا النقاش نحو ثنائية تفتت المجتمع»، ويضيف الملك في لهجة تحذيرية من المهم استخدامها في هذه المرحلة « لن نقبل أو نعطي المجال لنفر قليل مهما كانت منابته ومشاربه وغاياته أن يخرب مستقبل الأردن».

وفي موضوع الوطن البديل الذي يظهر بين فترة وأخرى إما نتيجة مبررات منطقية أو هواجس مبالغ بها لا يتردد الملك في أن يقول بلهجة التحدي العسكري :» أريد أن أطمئن الجميع لن يكون الأردن وطنا بديلا لأحد، وهل يعقل أن يكون الأردن بديلا لأحد ونحن جالسون لا نحرك ساكنا، لدينا جيش ومستعدون أن نقاتل من أجل وطننا ومن اجل مستقبل الأردن، ويجب أن نتحدث بقوة ولا نسمح حتى لمجرد هذه الفكرة أن تبقى في عقول بعضنا». هذا التصريح يحمل الكثير من الأهمية في مضامينه السياسية والتي تؤكد أن الأردن سيكون حاضرا للرد على أي توجه حول الوطن البديل وبأية وسيلة يمكن معها الدفاع عن مستقبل البلاد.

سنقرأ ونستمع في الأيام القادمة إلى الكثير من التحليلات والمقالات والتصريحات حول أهمية تدخل الملك وحسمه للنقاش في موضوع الهوية مركزا على محاربة الوطن البديل، ولكن النجاح الحقيقي لنا هو في تحمل النخبة السياسية والإعلامية الأردنية لمسؤولياتها في عدم الاستمرار بتحريض المواطنين أو إثارة الشكوك بحثا عن شعبية زائفة على حساب الملك، وكلما نجحنا في أن نلجم من وتيرة هذه المحاولات لزرع الفتنة دون أن يضطر الملك للتدخل في كل مرة نكون قد نجحنا في استدامة اسس الهوية الوطنية الجامعة في الأردن.

لا يحتاج الملك منا إلى خطابات التأييد والإعحاب بما قال، بل إلى تحمل مسؤولياتنا في عدم السماح بانتشار الأصوات النشاز ومحاربتها في أوكارها وتعزيز الهوية الوطنية الأردنية وحماية الوحدة الوطنية واتخاذ المواقف الصحيحة لحماية مستقبل البلاد وهذا سيخفف على الملك من حمل مسؤولية ثقيلة في التدخل في كل مرة لمعالجة الخلل في طريقة تعاملنا مع النقاشات المطلوبة في المسائل السياسية الحساسة.

batirw@yahoo.com