القيّم قبل المعرفة والمهارات

ا

من حكمة الخالق البالغة أن بدأ رسالة الإسلام باختبار القيم في سلوك أول جيل من أجيال البشرية (ابنيّ آدم ), قال تعالى }وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ{(صدق الله العظيم)
ولم تكن القرابين إلا نتيجة المعرفة المكتسبة لكل من الأخوين، والتي ارتبطت عند الثاني بالقيم حين قال (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) قالتقوى عاصمة من تحويل العلم والمعرفة إلى سلطة شر، وانفصلت عن القيم عند الأول الذي قال لأخيه (لَأَقْتُلَنَّكَ ) معتبراً أن الخبرة المعرفية كافية لقبول العمل دون اعتبار قيمة التقوى والخوف من الله تعالى.
القيم هي « المعتقدات التي يؤمن بها الفرد، فتوجه سلوكياته في الحياة وجهة محددة وفقاً لمعطياتها، وتهبه عاطفة تعمل على تشكيل شخصيته، وتحديد هويته التي تميّزه عن غيره من الناس الآخرين», وترتبط بالثقافة المحيطة بالعمل الإصلاحي والمجتمعات الكبرى، ولكل مجتمع ثقافته الخاصة التي يتسم بها ويعيش فيها، ولكل ثقافة ميزاتها وخصائصها ومقوماتها المادية التي تتألف من طرائق المعيشة. ويجب التمييز بشكل واضح بين المعرفة والمهارات والقيم، فالمعرفة والمهارات يمكن إثباتها، وتستخدم من أجل توضيح السلوك ومن أجل تحديد المفاهيم العملية، أما القيم هي إرشادات للسلوك، وتنمو من خلال التجارب الشخصية، وتتعدل حسب تراكم التجارب, وتقسم إلى أنواع هي: قيم جوهرية: وهي القيم التجريدية التي تميل لأن تكون سهلة، وهي: الحرية، والكرامة، والتقدم والعدالة؛ وقيم مساعدة: وهي القيم التي تحدد وسائل الوصول إلى النهايات، وهي أوضاع سلوكية أو إدارية مثل حرية الإرادة والخصوصية.
السؤال هنا, كيف نبني نظامنا التعليمي بحيث يكون أكثر ارتباطاً بالقيم والاتجاهات؟ هل نحن بحاجة إلى تعديل المناهج والكتب المدرسية والسياسات التربوية العامة؟ كيف نصل إلى معلمينا، بحيث نكسبهم الاتجاهات والقيم، التي تدعو إلى تعليم القيم؟ وكيف نكسبهم مهارات أساسية في تعليم القيم؟
هذه التساؤلات جاءت نتيجة واقع وصل إليه نظام التعليم, حيث ركزت التربية في القرن العشرين وخاصة النصف الثاني على قيم العلم والتكنولوجيا على حساب القيم الإنسانية والاجتماعية, وأيضاً أدت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وتأثيرات العولمة, إلى إفراز مجموعة من الأخلاقيات الجديدة معظمها ركز على جانب قيم المادة الاستهلاكية, بعيداً عن القيم الروحية والإنسانية, عدا أيضاً عن انتشار ثقافة التغيير وغيرها من العوامل التي أدت إلى ضعف القيم والمبادئ في كثير من أنحاء العالم العربي, لدرجة بات فيها المعيار الرئيس لقياس التحول الاجتماعي هو الثراء المادي وتفشي الترف الزائف بسبب غياب التربية الفاعلة والمؤثرة, وهذا ما جعل منظمة اليونسكو في تقريرها حول التعليم في القرن الجديد الدعوة إلى تكثيف الاهتمام بالقيم الانسانية.
وفي استعراض سريع لفلسفات التربية وانعكاسها على خطط وزارة التربية والتعليم الأردنية, نرى أن هناك رغبة واضحة في إحداث تطوير شامل في مختلف السياسات التربوية وخاصة فيما يشمل كفايات المعلم وتطوير التعليم, وتطوير التعليم ما قبل الإبتدائي والاساسي والثانوي سواء المهني أو التقني, وهناك تركيز واضح على إعادة النظر في أهداف المواد الدراسية على ضوء الأهداف العامة للتربية, بالإضافة إلى التركيز على أهمية بناء شخصية المواطن على العيش في عالم متغير والملتزم بثقافة العصر.
ولأهمية تقديم القيم على المهارات والمعرفة, أولت بعض الدول هذا الجانب أهمية كبرى منها سنغافورة, حيث يعتبر نظام التعليم في سنغافورة واحدا من أفضل أنظمة التعليم في العالم, كما تعد التجربة السنغافورية في التربية والتعليم من التجارب الرائدة التي تستحق الوقوف عليها والتوقف عندها من أجل الاستفادة منها.
وإيماناً من جلالة الملك عبدالله الثاني بأهمية التعليم لبناء القدرات والتنمية البشرية القائمة على أساس القيم والمبادئ والاتجاهات, وأثناء زيارته لسنغافورة , زار جلالته جامعة ناينانغ التكنولوجية إحدى أفضل الجامعات في العالم, حيث تم بحث آليات التعاون في مجالات البحث العلمي والريادة التكنولوجية والعلوم والهندسة وتبادل الخبرات والتدريب بين جامعة ناينانغ التكنولوجية والجامعات والمؤسسات التعليمية في الأردن, وتضم هذه الجامعة معهدا وطنيا لتعليم القيادة حيث يقوم هذا المعهد بتدريب المعلمين قبل وخلال الخدمة بالإضافة إلى برامج تأهيل القيادات التعليمية والإدارية وبرامج تطوير اساليب التدريس وهو من أهم المعاهد المماثلة في العالم ويحمل شعار»القيم قبل المهارات والمعرفة».
إن تدريس القيم أو التدريس من أجل تنمية القيم يتطلب اتخاذ عدد من الإجراءات المتعلقة بالقيم التي يجب التركيز عليها ونحن بحاجة إلى نظرة واضحة نحدد بموجبها، نظام القيم الحديث والثقافات التي يجب التركيز عليها . فكم من الماضي يجب أن نأخذ؟ وما هذا الكم؟ وكم من الآخر يمكن أن نأخذ؟ وما هذا الكم؟ كما أننا مطالبون بالإجابة عن السؤال: ما نوع المواطن الذي نريد إنتاجه؟هل نريد إعادة إنتاج المواطن السابق؟ القديم؟ بكل ما يحمله من قيم وثقافات؟ أم نريد إنتاج مواطن معاصر قادر على العيش في عالم يؤثر فيه بشكل لم يسبق له من قبل؟ مواطن قادر على توظيف قيمه ومبادئه بما تعلمه واكتسبه من مهارات ومعرفة...!
*رئيس جامعة العقبة للتكنولوجيا