الدولة المدنیة وأضالیل السلطة العمیقة

لا یمكن اختزال الحراك الشعبي والھبات الجماھیریة والانتفاضات الشعبیة، أو أي شكل من أشكال التمرد على سلطة النظام الاستبدادي، كون أي واحدة منھا أو كلھا بمثابة صراع من أجل الاستیلاء على السلطة، مع أن أیاً من ھذه الأشكال الكفاحیة، یمكن أن تنجح بالانقلاب على السلطة أو الإطاحة برأسھا الأول. كما حصل أخیراً في الجزائر وفي السودان، ومن قبل في بدایات ثورات "الربیع العربي" بدءاً من تونس مروراً بمصر ومن ثم لیبیا والیمن، مع الفارق بین محطة وأخرى؛ على رغم ذلك تبقى الثورة الشعبیة أشمل في منطلقاتھا .وسیرورة مآلاتھا الثورة وأھداف الحریة والتغییر، أوسع وأشمل من تلك الرؤى ضیقة الأفق والحدود، التي یقف عندھا "أصحاب المغانم" ورواد الشعارات وانتھازیو اللحظة، من نخب عسكریة وأمنیة ورواد "التقیة" الدینیة السلطویة، ومن یدعمھم من أصحاب المصالح والمنافع من قوى النفوذ والھیمنة الإقلیمیة والدولیة، الساعون إلى اقتناص الفرص السانحة وركوب الموجة، وصولاً إلى ما ابتغت وتبتغي قوى الثورة المضادة، ومشایعو الأنظمة الاستبدادیة، وبیروقراطیات الرأسمالیات الغربیة؛ في سعیھم الدؤوب للحفاظ على مصالح "جیواستراتیجیة" .ھامة، یقف في مقدمتھا أمن إسرائیل وحمایة الثروات الطبیعیة، وفي مقدمتھا النفط والغاز وطرق التجارة الدولیة لذلك، أمكن القول أن مسیرة الثورة وسیرورتھا، مشروطة بتواصل عملیة التغییر، والسعي نحو إحداث أوسع تحولات تاریخیة ممكنة، في مجتمعات توقف تطورھا عند حد الجمود والثبات وتخلف العقل والفكر السیاسي والتھمیش، وتحریم استخدام العقل وتجریمھ واستبدالھ بمسائل نقلیة، احتكمت وتحتكم بدورھا إلى "عقل نقلي" استنسخ ما قبلھ، وما قبل قبلھ، وصولاً إلى نوع من الجمود المزمن؛ وھا نحن ھنا نجلس عند قارعة انتظار طویلة، على أمل تحقیق إصلاحات شاملة؛ دینیة وثقافیة وسیاسیة واقتصادیة واجتماعیة، انفكاكاً من أسر التقلید والتقالید المزمنة، والأحكام المسبقة والسلطات الجائرة، من أجل الانتقال خطوة نحو تجاوز كل معوقات التقدم والتنویر والحداثة، في إطار صراع القوى المحتدم، القائم الیوم في .مجتمعاتنا وھنا أمكن ملاحظة الاعتراضات والتدخلات الأمیركیة والأوروبیة الغربیة والشرقیة، وكذلك الإسرائیلیة، في محاولة توجیھ حراكات المجتمعات وھبّاتھا الجماھیریة، وتحت حجة "دمقرطتھا"، جرت وتجري محاولات إفقادھا براءتھا ورؤاھا الخاصة، بما یخدم المصالح التكتیكیة والاستراتیجیة الخاصة بقوى رأسمال الدولي، على حساب مصالح المجتمعات .الوطنیة التي تسعى قوى الحداثة والمعاصرة لبنائھا وفق مصالحھا وتطلعاتھا وأمانیھا في التقدم؛ وبموجب رؤیتھا ھي، لا وفق مصالح استتباع خاصة بھذا أو لھذا الطرف أو ذاك شكلت معوقات التقدم، واحدة من أھداف تشترك في التصدي لھا قوى أساس في الدواخل الوطنیة، تقف في مقدمتھا نخب المؤسسة العسكریة العلیا وقوى دینیة وغیر دینیة، تستمد دیمومة مصالحھا من حفاظھا على الستاتیكو الآیدیولوجي بتزییفاتھ المتعددة، ومن ثوابت سلطویة مھیمنة سیاسیة ومجتمعیة أھلویة ما قبل مدنیة؛ ثقافیة وسیاسیة واقتصادیة تسعى لإقامة تحالفات مع قوى في الخارج، كل ما یھمھا في سیاق العلاقة ببلدان المحیط "العالمثالثي"، الحفاظ على تبعیة سیاسیة واقتصادیة شاملة، تعید انتظام المجتمعات الوطنیة على وقع "مركز قائد" ومحیط تابع؛ على رغم الأزمة المالیة العالمیة غیر المسبوقة، التي لا یتوقع لھا أن تنتھي في ظل استمرار اختلال السلم الأھلي داخل المجتمعات الوطنیة، أو في ظل سلم إقلیمي أو دولي مضطرب، في غیاب نواظم في العلاقات الدولیة؛ التي افتقدت ھیمنة قطب أحادي، في وقت لم تتبلور بعد أي مساحة من الھیمنة والتأثیر الفاعل لقوى وأقطاب تعددیة، .یؤمل أن ترث ھیمنة ونفوذ الدولة القطبیة الأحادیة التي مثلتھا الولایات المتحدة إن غایة الثورة ومآلاتھا الأخیرة، كما التغییر؛ مھمة تاریخیة، تتسم بإجراء تحویلات وتحولات شاملة، تتلخص في مھمة بناء مجتمع مدني ودولة مدنیة تعددیة ودیموقراطیة، تمثل .مصالح وتطلعات وأماني شعبھا أولا، من دون أن تمتثل لمصالح قوى النفوذ والھیمنة وتطلعاتھا، ومن غیر انحیاز أو تحیّز لمركز سلطوي في الداخل أو الخارج وحدھا الدولة المدنیة التي یؤمل، بل ویجري العمل من أجل أن تقوم على أنقاض دولة العسكر ونخبھا البولیسیة العمیقة، أو صاحبة الآیدیولوجیا الدینیة أو السیاسویة، استبدادیة الطابع؛ دولة دیموقراطیة مدنیة، یمكنھا أن تنسجم وأھداف ثورات الاستحقاق التاریخي لشعوبنا، في تخطیھا حواجز النھوض الوطني للدولة ومعوقاتھ، التي أرید لھا أن تقوم قیامتھا على أسس دیموقراطیة تعددیة، لا تحتكم لأي آیدیولوجیا أو تصورات شعبویة، أو تعتمد أي نوع من التمذھب المرجعي، من حیث الادعاء بانتسابھ لما یطلقون علیھ "الألطاف الإلھیة" المصلحیة .والمنفعیة الخاصة بھم؛ كواحدة من عوامل التزییف الآیدیولوجي لیس إلاّ وحدھا الدولة المدنیة التي تنتجھا الإرادات البشریة المناضلة، من أجل استعادة ھویتھا وثقافتھا وسیاستھا ووجودھا الوطني الفاعل، في إطارات الضرورة التاریخیة، ھي التي تستحق الكفاح من أجلھا، ومن أجل التخلص نھائیاً من كل معوقات التقدم الإنساني ومجده المجتمعي – الدولتي المجسد في دولة؛ دولة مدنیة حدیثة عصریة ناھضة، تنیر دروب التقدم لذاتھا ولمن ھم حولھا، ولا تطفئ حتى شمعة من شموع التجارب والخبرات والفاعلیة الإنسانیة، باسم التزییف الآیدیولوجي الرائج في عالم التدیّن الطوائفي المتمذھب، كما في عالم ."السیاسویة المتمذھبة ھي الأخرى، وھي تروج لحطام وھشیم الآیدیولوجیا السلطویة الأكثر استملاكا واستھلاكا لأدلوجات "المقدس الدیني" و"المقدس السلطوي أخشى ما نخشاه الیوم في سیاق الطور الثاني من ربیع الانتفاضات الشعبیة، أن یعاود العسكر الانقلاب مرة أخرى بالمراوغة والخداع على الثورة وقوى الحریة والتغییر، ومنعھا من تحقیق أھدافھا، حفاظاً على مصالح جنرالات السلطة العمیقة، وعبر إتاحة المجال لاستعادة بعض قوى النظام القدیم وتمكینھا من مجدداً، أو إعادة تلمیع بعض نخب قوى الثورة المضادة، والزج بھا في معركة استعادة السلطة العمیقة التي بقیت تحیط النظام القدیم، طوال أكثر من عھد من عھود الاستبداد السلطوي الذي حكم في كل من الجزائر والسودان، وھما المثالان البارزان الیوم؛ المرشحان لتلقي سھام الخدع وأضالیل عسكرھما وقوى التدین السیاسوي، في محاولتھما الحفاظ على "ستاتیكو" الاستبداد في مواجھة حراكات الشعب وقوى الثورة والتغییر، وھي تسعى حثیثا ًللتحرر من قیم الطغیان، وكل القوى التي تساندھا؛ بدءا من رأس ھرم السلطة، مرورا باحتیاطیھا العسكري، وانتھاء بتلك الانتھازیة والوصولیة .الدینیة التي شكلت على الدوام الاحتیاط الرجعي لسلطات الاستبداد العمیقة والمباشرة، القابضة على مغانم السلطة .كاتب فلسطیني *