وجه آخر للحوكمة !

في الغالب لا أحد يتكلم عن الحوكمة إلا من خلال ثلاثية التشاركية والشفافية والمساءلة في إدارة مؤسسات القطاعين العام والخاص من أجل ضمان حسن أدائها وجودة مخرجاتها ، لكن هناك وجه آخر للحوكمة وهو " المحاكمة " إنها بالفعل تحكم بشكل صارم على واقع الأداء قبل وبعد حوكمته ، بل إنها تحاكم المصطلحات والأدبيات المستخدمة في صياغة الإستراتيجيات لتكشف مدى انسجامها أو تناقضها مع عمليات التنمية الشاملة والمستدامة .

من حيث المبدأ يمكن توجيه الشكر للذين صاغوا وأطلقوا الإستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية ، فقد ذهبوا إلى أبعد من معالجة الوضع الراهن للفقر والبطالة والجوع ، أي إلى " بناء منظومة حماية اجتماعية شاملة ومتكاملة ، تحصن الأردنيين والأردنيات من الفقر وخطر الوقوع به ، وتمكنهم من العيش بكرامة " .

توجد فقرة رأيتها في الخبر المنشور عن إطلاق الحكومة للخطة الإستراتيجية للأعوام 2019-2025 تقول " تهدف الإستراتيجية إلى الوصول إلى منظومة قابلة للقياس والمساءلة والمحاسبة ، وتعزيز الإنتاجية والاعتماد على الذات من خلال توفير بيئة عمل لائقة ، وفرص عمل متكافئة ، وقطاعات إنتاجية ذات قيمة مضافة ، والوصول إلى سوق عمل منظم ومنصف بين مختلف القطاعات ، إلى جانب تقديم الخدمة التعليمية الشاملة والممكنة والرعاية الصحية السليمة والمنصفة للمواطنين الأردنيين بكرامة " ففي هذه الفقرة قد نجد إشارة واضحة لبعض عناصر الحوكمة من مساءلة ومحاسبة ، ولكن بقية النص يبعث على التعجب والاستغراب !

كيف لإستراتيجية قطاعية موضوعة من أجل تعزيز التنسيق والتكامل بين برامج الدعم والمساعدات والرعاية الاجتماعية والجهات العاملة في مجال الحماية الاجتماعية ، أن تحيط بكل الأهداف التي يمكن أن تكون جزءا من الإستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة ، وما الحاجة إلى كل هذا التضخيم في الأهداف والأبعاد ، بل كيف يكون الجواب على سؤال بسيط إذا كان كل ما تشير إليه الإستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية ليس موجودا ، وسيتم العمل من أجل تحقيقه ، فما الحال على أرض الواقع اليوم ؟!

أنا من أشد المنادين بالتفكير والتخطيط والإدارة الإستراتيجية والحوكمة ، ولكنني أخشى دائما من المبالغة في أدبيات الصياغة ، وخلط الأساسي بالفرعي ، وإدخال قطاعات في الأهداف دون أن تكون حاضرة في التخطيط ، وغير ذلك كثير من إشارات تبعث على الأسف !