كأن بعض الناس اشتفوا وابتهجوا بالجريمة التي ارتكبها يونس قنديل، واعتبروها هزيمة منكرة للعَلْمانية. ولكن هذا الابتهاج مجهض ثلاث مرات: الأولى: لأن الجريمة شخصية ولا مسؤولية لأحد عنها سوى مرتكبها، فهو لم يشاور أحداً فيها، ولا صدرت عن قرار مشترك لهيئة أو لجنة، وليس للعلمانية أو غير العلمانية علاقة بها، وإلا كان للإسلام علاقة أو مسؤولية عن الجرائم التي يرتكبها المسلم، بما في ذلك قنديل الذي لم يتخل عن إسلامه، والإسلاميون يحذرون ليل نهار أن الإسلام بريء منها، حتى وإن ارتكبها كالقاعدة وداعش باسمه.
والثانية: لأنه لا يمكن تغيير التاريخ أو الماضي، فجرائم الاغتيالات من النقراشي باشا وحتى ناهض حتر ومئات آلاف ضحايا تلك المنظمات الإرهابية من الناس الأبرياء لا تسقط بمرور الزمن عن المنفذين والموجهين والمدبرين.
والثالثة: لأنه يصعب إلحاق الهزيمة بالعَلْمانية لأنها فكرة يمكن أن يتبناها أي شخص أو تتبناها أي دولة قد يكون/ تكون مسلماً/ة أو مسيحياً/ة أو هندوسياً/ة أو بوذياً/ة… وهي الآن متبناة في 80 % من دول العالم، بما فيها معظم الدول العربية والمسلمة، ما خلا دولتين أو ثلاث.
قد تسألني: ما معيارك في علمانية الفرد أو الدولة؟ فأجيبك بأنه كل فرد أو دولة يؤمن/ تؤمن بحرية التعبير والدين ويحترم/ تحترم التعددية الفكرية والدينية والمذهبية، والتي لولا (هذه) العلمانية ما اخترق الإسلام والمسلمون حدود بلد واحد غير مسلم، ولا أقاموا أو أنشأوا الجوامع والمراكز الإسلامية في عواصمه ومدنه. العلمانية هي التي سمحت بذلك وتسمح بالتبشير الديني أو المذهبي أياً كانا في كل دولة علمانية.
نعم، إنهم يعرفون في قرارة أنفسهم وينكرون أن العَلْمانية ليست أيدولوجية ضد الدين وأنه لا توجد قوة في العالم تستطيع أن تمحو الدين، وأن كثيراً من العلمانيين مؤمنون بأديانهم وملتزمون، وأنه لا منافسة فكرية بين هذه العلمانية والدين في شيء لأن العلمانية ليست ديناً آخر. إن مهمتها الرئيسة هي المحافظة على الحرية الفكرية والدينية والمذهبية القصوى للجميع، فإذا كانت هذه الحرية ماثلة في الهند فإنها توفر الحرية للإسلام والمسلمين وغيرهما. وإذا كانت قائمة في أوروبا وأميركا فإنها توفرها لهما أيضاً. وإذا كانت ماثلة في بلداننا فإنها توفرها للمسيحية، واليهودية، والبوذية، والهندوسية (كما في باكستان وبنغلادش واندونيسيا وماليزيا…).
لكن الكفر عناد كما يقال، إذ كلما تذكرهم بذلك يعودون بك إلى المربع الأول وأن العلمانية ضد الدين، خالطين بين العلمانية والدكتاتورية – كالتي تمارسها حكومة طاجكستان التي حولت جميع المساجد والكنائس إلى مدارس. فالطفل السوي في المدرسة يمكن أن يفهم الموضوع ويميز بينهما- والإلحاد الذي يمارسه نظام كوريا الشمالية الدكتاتورية الذي ألزم الشعب هناك بدين الجوشي الذي فبركه كيم سونغ الثاني.
بدلاً من ذلك يمكن للمرء أن يقول: أنا أعرف ذلك تماماً، ولكنني أرفض هذه العلمانية لأنني لا أقبل الفصل بين الدين والسياسة، لأن الإسلام دين ودولة، ولكنني لا أكفر العلمانيين الذين يطالبون بالفصل بينهما.
حسب المفكر الإسلامي السوداني (تلميذ المفكر الإسلامي محمد محمود طه) عبد الله أحمد النعيم في كتابه "الإسلام والعلمانية” (2010) فإن العلمانية "هي حقيقة ما كان عليه حال المسلمين منذ انتقال النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، وأن فكرة الدولة الدينية الإسلامية هي بدعة [وكل بدعة ضلالة] ظهرت في مرحلة ما بعد الاستعمار منذ أواسط القرن العشرين”، ولكن الإسلاميين، والإسلامويين يحاربون الفكرة ويشوهون مفهومها، ويكفرون المنادين بها.
عيب الافتعال الدائم لهذه المعركة الوهمية الخاسرة. يجب أن يسمح للجميع بحرية التعبير تاركين القرار للرأي العام أو للتاريخ. والأفضل أو الأجدى في أثناء ذلك تخصيص ما يلزم من الوقت لمحاربة التخلف الذي يفتك بالمسلمين.
لو كانوا موضوعيين ولانتشار الإسلام السلمي في العالم يعملون، لرفضوا الحركات الشعبوية واليمينية التي تهدد الحرية الدينية، ولكانوا في طليعة الذين يدعون إلى هذه العلمانية ويدافعون عنها، لأنها – على الأقل – توفر الحماية، وحرية العبادة والتعبير لأكثر من أربعمائة مليون مسلم يعيشون في بلدان غير مسلمة. وليدرك المتعصب الأعمى ضد العلمانية صحة موقفه أو خطأه يجب أن يفكر عالمياً (هل يصلح موقفه في كل مكان؟) وأن يتصرف محلياً وليس العكس.