الأردن ليس ممرا للقوافل
من بين مغالطات التاريخ التي تم ترويجها في العصر الحديث، إما قصداً أو جهلاً، المغالطة القائلة : "أن الأردن جغرافياً .. كان ممرا للقوافل، فيما كانت الديموغرافيا الأردنية .. عشائر متفرقة في الصحراء" ! .
وسرت هذه المغالطة وتداولت على بعض الألسن العربية، حتى أن من أبناء الأردن نفسه من بات يعتقد بهذا الاعتقاد ! وهذا ليس غريباً؛ أن يُصدق مثل هذه الشطحات والجمل العابرة، ما دام أننا وصفنا في مضى بأننا أمه لا تقرأ ؛ إذاً فلن يكون مفاجئاً أن يقاتل بعض الأردنيين قتالاً مستميتا وهم يقنعون غيرهم بتاريخ الأردن العريق، والحضارات والشعوب التي تعاقبت عليه، وتبديد هذه الجملة العابرة على التاريخ !!
وما يدمي القلب أكثر، هو أن يخرج علينا أحد الأشقاء العرب ممن يوصفون بأنهم كتاب أو باحثين؛ ليُدلي بدلوه المثقوب، فيعود عليه بالشوائب والرواسب فقط، فيقول أن بحثه خلص إلى : أن الأردن كان ممراً للقوافل ... وأن الأردنيين كانوا عشائر متفرقة في الصحراء !!
وبالنسبة لأولئك الباحثين، أو بالأحرى من حسبوا على الباحثين، (ولن أقول مع احترامي لهم)؛ لأنني لا أحترم إلا باحثا أو كاتبا يتقن أصول البحث والكتابة، ومنهجية العلم، أما أولئك فيبدو أنهم لا زالوا يزحفون على رصيف البحث، ولم ينضجوا بعد بما يؤهلهم للسير وسط طريق البحث والدراسة. ولنا هنا أن نسألهم بصفتنا متلقين للمعلومة قبل أن نكون أردنيين:
- أي منهج في البحث سلكتموه عندما أجريتم أبحاثكم المزعومة ؟
- وهل لكم أن تقولوا لنا أي المراجع والمصادر تلك، التي قالت أن الأردن كان ممراً للقوافل فحسب ؟
بالتأكيد أن من يظن الأردن كان ممراً للقوافل فحسب، هو لم يقرأ التاريخ ولو قليلاً؛ لأنه لو فعل ذلك لكان علم أن الأردن كان مأهولاً بالسكان منذ العصر الحجري الأول (150000_20000 ق.م)، ومن بعده العصرين الحجريين الأوسط والأخير، ومن ثم حضارات العموريين، والحشبونيين، والأدوميين، والموأبيين، والباشونيين، والعمونيين، والأنباط، والرومان، والبيزنطيين، وفتوحات الإسلام، والأمويين، والعباسيين، والفاطميين، والصليبيين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين، والمستعمرين الانجليز، وغيرهم حتى يومنا هذا ! وما يتخلل أولئك من أنبياء ورسل وديانات ودول ومعابد ومسارح ومقابر، وغيرها الكثير من أثارهم ! حتى بلغت عدد المواقع الأثرية المتبقية في الأردن أكثر من نصف مليون موقع! وفقاً للبعثات الأثرية التي نقبت في المملكة... وبالتأكيد أن كل تلك الحضارات والدول والشعوب والآثار، تنفي بالقطع أن يكون الأردن معبراً للقوافل فقط !
الأردن لم يكن ممراً للقوافل ... ولا نعلم كيف يوضع الطريق التاريخي الشهير (طريق الملوك) في بلد ما هو إلا ممراً للقوافل ! وكيف يتنازل الإمبراطور العظيم (الاسكندر المقدوني) ليزور بلدا ما هو إلا ممراً للقوافل !
الأردن لم يكن ممراً للقوافل ... ولا نعلم كيف يتعمد بمائه سيدنا المسيح (نهر الأردن)، ووجدت على أرضه أقدم كنيسة في العالم (رحاب)، وأقدم خريطة فسيفسائية في العالم (مادبا)، ومن ثم يكون ممراً للقوافل فقط !
الأردن لم يكن ممراً للقوافل ... وكيف يكون ذلك ؟ وعلى أرضه عاشت (العرب البائدة) عند بحيرة سدوم (البحر الميت) أخفض بقعة في العالم ومن غرائبه، و(العرب العاربة) الأنباط في البتراء، الذين صنعوا واحدة من عجائب الدنيا السبع في صخر الأردن ! بل وعلى أرضه عاش ومات أهل الكهف في (الرقيم) ؟!
الأردن لم يكن ممراً للقوافل ... وبالله عليكم كيف يُعتبر ممراً للقوافل، وسبعة مدن رومانية من أصل عشر (الديكابولس) قامت على أرضه، واحدة منها(جراسا) سكنها (2 مليون شخص)، بل إن ثلاثة عشر مسرح روماني (مدرج) من أصل خمسة وعشرين في العالم، انوجدت في الأردن ! ... فلا نعلم أي قافلة تلك التي تعدادها مليوني شخص ! ومركباتها سبعة مدن ! ولا نعلم أي مسافرون وعابرو سبيل، هؤلا الذين يشيدون مسارح في سفرهم وترحلهم ! وأية رحلة تلك التي تستغرق مئات وآلاف السنوات !
الأردن لم يكن ممراً للقوافل ... ولا نعلم كيف يأمر رسول الله بفتحه (فتوحات الشام)، وكيف تقوم معركتي كبيرتين على أرضه (مؤتة واليرموك)، وكيف يُدفن ألاف الصحابة بترابه، ما دام أنه ممراً للقوافل ؟! ولا نعلم كيف ترضى الدولة الأموية بعظمتها أن تنطلق من (اذرح) بعد التحكيم بين علي ومعاوية فيها، وكيف تنطلق الدولة العباسية بهيبتها من (الحميمة) ما دام أن ذلك التراب لا يصلح إلا للمسير ؟!
الأردن ليس ممراً للقوافل ... وهل ينكر أحد، أن تحرير صلاح الدين لفلسطين الذي كان من الأردن، بل وكل تحرير لفلسطين عبر التاريخ، ألم يكن من الأرض الأردنية ؟ وهل ينكر مسلم أن معركة النصر والحسم للمسلمين على اليهود ستكون من الأردن وعبر نهره ؟
الأردن لم يكن ممراً للقوافل ... وعلى أرضه قامت ثلاثة حكومات عثمانية في عجلون والبلقاء والكرك، ومنها كانت الثورة العربية، فكيف بمقدور عشائر متفرقة في الصحراء أن تُدير حكومات ؟! وكيف لها أن تنخرط في الثورة ؟! وكيف لها أن تكون في الأحزاب العربية القومية آنذاك ؟! بل كيف لبريطانيا أن تستعيض عن دول، بطريق لتستعمرها ؟! ثم كيف للهجة الأردنية أن تُعد أقرب اللهجات إلى لغة الضاد الفصحى ؟! إن كان شعبها لا يعدو سوى أن يكون عشائر متفرقة ؟!
الأردن لم يكن ممراُ للقوافل، وشعبه ليس عشائر متفرقة في الصحراء ... بل إن أرضه لم تكن صحراء كما هو الآن؛ وإنما جرى (تصحيرها) حين قامت الدولة العثمانية بتقطيع شجره ليكون وقودا للقطار (سكة حديد الحجاز) الذي أقامتها آنذاك، ومما يدلل على ذلك ما وعده رسول الله علية السلام لأصحابه حين قال : " فجعلت لكم جنان كجنان الأردن) .
نعم الأردن ليس ممراً للقوافل، ولا هو وطناً بديلاً ... وان من روج لمغالطة أن الأردن ممراً للقوافل عن قصد؛ كان يرمي من وراء ذلك، الصعود والظهور، وتحقيق سمعة على حساب هذا الوطن، حتى يقول أن الأردن ما كان ليكون بدونه.
ويبقى أن نقول لله والتاريخ ولثرى الأردن: أن الأردن كان ممراً للقوافل من ضمن دول وحضارات وشعوب، مثله في ذلك مثل أي دولة اخرى مرت منها القوافل، ولكن لم يكن ممراً للقوافل كما صور على أنه طريقاً للعبور فقط !
Ahmad.alrababah@kermalkom.com