هذه الحدود وتلك الصفقة!
عندما يُوقع أكثر من 60000 أخصائي صحة عقلية على عريضةٍ جاء فيها: "نحن، أخصائيي الصحة العقلية الموقعين
أدناه، نؤمن بحكمنا المهني أن دونالد ترمب يظهر مرضًا عقليًا خطيرًا يجعله غير
قادر من الناحية النفسية على أداء واجبات رئيس الولايات المتحدة بكفاءة. ونطلب
باحترام إقالته من منصبه، وفقًا للمادة 4 من التعديل الخامس والعشرين للدستور،
والذي ينص على أنه سيتم استبدال الرئيس إذا كان "غير قادر على أداء صلاحيات
وواجبات منصبه". "، فإن ذلك يُثير الذعر، بل إنه يقتضي التأمل لبرهةٍ نُكون فيها بعض المعايير التي يجب
علينا الإعتماد عليها في تشخيص حالة هذا الرئيس المجنون، السؤال الذي يجب مناقشته
والإجابة عليه فيما بعد هو: هل يمكن
اعتبار دونالد ترمب أو أي شخصية عامة مصابًا بمرض عقلي بناءً على معايير محددة يتم
نشرها بشكل جيد وتعكس سلوكًا ملحوظًا؟، وهل من الأخلاقي لأخصائيي الصحة العقلية الدخول في أعمال تشخيص
عامة؟، وهل علم النفس أصبح أداة مناسبة لمعالجة قضايا الحكم؟، وكيف هو مستقبل صفقة
القرن؟، الإجابة على ذلك ستتضح حتمًا في السطور اللاحقة.
كان قد أخبر دونالد ترمب المؤيدين بالنجاح الذي حققه في نقل السفارة
الأمريكية في إسرائيل إلى القدس وإعلان المدينة المقدسة المتنازع عليها عاصمة
إسرائيل. لم يجرؤ أي رئيس أميركي آخر على القيام بذلك، وأمام الكاميرات وشاشات
التلفاز يظهر لنا كم هو متفاخرٌ بذلك، إنه نهج تعسفي يحاول نشره أمام مشاعر الرأي العام وترويضه على
القبول بها، العربي تحديدًا.
كما هو متوقع، فإن هذا النهج التعسفي تجاه الشرق الأوسط يضع الأعصاب
على حافة الهاوية في إسرائيل. كانت حكومة بنيامين نتنياهو - التي تميل نحو يمين
متطرف ترغب في توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية المحتلة وضمها إليها -
واثقة من أن هذا الرئيس سينهي أخيرًا الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب
إسرائيل.
لكن يبدو أن الطبقة السياسية الإسرائيلية ليست بحاجة إلى القلق بشأن تأملات السيد ترمب
غير الرسمية. حصل الفلسطينيون على "رؤية ما يحدث" خلال أيام. أنهت إدارة
ترمب كل المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية التي تتمتع بحكم شبه ذاتي،
والمسؤولة عن الجيوب التي تقل عن نصف الضفة الغربية، وقطعت ما تبقى من تمويلها إلى
وكالة اللاجئين الفلسطينية التابعة للأمم المتحدة.
يذكر أن السيد ترمب قد وعد مرارًا وتكرارًا بتسليم "الصفقة
النهائية" في الشرق الأوسط. وقد قام بتخليص صهره، جاريد كوشنر وهو رجل أعمال
عقاري آخر بدون خبرة في حل النزاعات للتوسط في الصفقة.
إن إسرائيل، بتخليها عن فكرة إقامة دولتين تعيشان جنبًا إلى جنب مع
تشجيع الولايات المتحدة، تتجه نحو دولة واحدة غير متفق عليها بعمق. واحدة من القضايا الرئيسية الأربعة التي أرجئها إطار أوسلو إلى
محادثات "الوضع الدائم" التي لم تنطلق قط، هي مستقبل القدس؛ مستقبل
المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة؛ والحدود النهائية لإسرائيل والدولة
الفلسطينية.
الآن، يتوقف ترمب عن تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل
اللاجئين الفلسطينيين، والتي كانت تعتني منذ ما يقرب من 70 عامًا بالفلسطينيين
الذين أجبروا على الخروج في حرب ال 1948 حرب ال 1967. وفيما يتعلق بالأونروا فإن النقاد
الإسرائيليون والأمريكيون يُصرون على أنها السبب الذي يُلهب المشكلة - بتغطية أكثر
من 5 ملايين لاجئ وأحفادهم - وبدلاً من رفض إسرائيل مناقشتها. أشاد السيد نتنياهو
يوم الأحد بتقصير ما أسماه "وكالة إدامة اللاجئين".
إن الخدمات التي تقدمها الأونروا
كثيرة، ومنها الصحة والتعليم، وكذلك الغذاء للاجئين في 60 مخيماً في الضفة الغربية وقطاع
غزة وفي لبنان وسوريا والأردن. إذا كانت الولايات المتحدة تشق طريقها وتعيد تعريف
اللاجئين على أنهم الناجين فقط بين أولئك الذين فروا في عام 1948، فإن إسرائيل ستضل
محاصرة.
وفي الوقت نفسه، يستمر استعمار إسرائيل الاستراتيجي للأراضي الفلسطينية
المحتلة، حيث تسعى خطة كوشنر لجرف التعلق الديني العربي والإسلامي بالقدس. الآن،
يقول المسؤولون العرب ، السيد كوشنر يدفع فكرة كونفدرالية بين الأردن والضفة
الفلسطينية في الضفة الغربية.
بعد انتظار ترمب لصفقة القرن، فإن ما يُمكن تصوره الآن أن ما يدور في ذهن الرئيس الأمريكي وجارد
كوشنر يشبه إلى حد كبير "رشوة القرن". ما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز هو أن خطة هذه الصفقة تقتضي ضخ عشرات
المليارات من المساعدات الاقتصادية للفلسطينيين، وكذلك على مصر والأردن وربما حتى
لبنان، لكن ما هو عدد المليارات التي سيتم ضخها في المنطقة؟، يبدو أننا لن نعرف ذلك إلا بعد الانتخابات
الإسرائيلية، لكن الصحيفة نقلت عن مصادر قولها إن الفلسطينيين وحدهم سيحصلون على
25 مليار دولار والآخرين يصل إلى 40 مليار دولار.
في ظل قيام دولة فلسطينية في المستقبل، ظل كوشنر غامضًا. ففي مقابلة
مع قناة سكاي نيوز، امتنع عن
الارتباط بهذه القضية بشكل مباشر، لكنه أشار ضمنيًا إلى أن أشياء مثل الحدود
الوطنية كانت مخيفة. هذا غريب أليس كذلك؟..وهناك علامات استفهام كثيرة تتمكرز في وسط
القضية، إنه ضربٌ من التناقض على ما يبدو، فوالد زوجته دولاند ترمب من المعجبين
بالحدود والجدران.
على أي حال، قال كوشنر إن الخطة السياسية مفصلة للغاية، وتدور حول تحديد
الحدود وحل قضايا الوضع النهائي. إن هدف حل هذه الحدود هو في الحقيقة إزالة
الحدود. إذا تمكنت من القضاء على الحدود وتحقيق السلام، فسيكون ذلك سببًا في خلق
الفرص والقضاء على الإرهاب، كوشنير من الأشخاص الذين يربطون بين الحدود وعلاقتها
بالإرهاب، فمتى اختفت الحدود انحسر مد الإرهاب، مِمَّا يعني تدفق أكثر حرية
للبضائع وتدفق أكثر حرية للناس وهذا سيخلق
الكثير من الفرص.
إن التصور الذي بناه كوشنير هو أن الفلسطينيين سَيتخلون عن مطالبهم بدولة كاملة في
مقابل الحصول على كميات هائلة من المساعدات. لكنه نسي أن الفلسطينين ولدوا من رحم
المعاناة، ومن يولد بهذه الطريقة الفذة من الصعب ترويضه على الإستسلام وقَبول
الرشوة، ووفقًا لخطته فإن الخطوط العريضة التي تم الكشف عنها حتى الآن يبدو
أنها تستند إلى المثالية وأن السلام والازدهار يسيران جنبًا إلى جنب نحو مستقبل
مجيد، حيث يؤدي الازدهار إلى الصدارة.
إن الشرق الأوسط الجديد الذي
يتصوره كوشنر يتمثل في نقل البضائع
والأشخاص والمعلومات بسهولة من بلدٍ إلى آخر دون أية عراقيل، إلى جانب الطرق
السريعة المتلألئة وشبكات الاتصالات الحديثة. حيث ستظهر فئة من رواد الأعمال
الجريئين بسرعة لتوفير الوظائف والخدمات. المصطلح الذي يلائم هذا التوصر هو أننا
على أعتاب جنةٍ متطورة بل فائقة التطور، وهذا يجهلنا نتسائل عن علاقة الإسلام
وإزالة الحدود وتغيير المعالم وطمس الإسلام بخطته؟.
دعونا نفترض في الوقت الحالي أن هناك دولًا –يفترض أنها شقيقة-
مستعدة لتمويل صفقة القرن وأن الكونغرس مستعد للشروع في مساهمة أمريكية، وهو ما
يخطط له كوشنر لدفعه مقابل كل ذلك. لنفترض أيضًا أن الفلسطينيين يتحدثون فعليًا مع
إدارة ترامب.
حتى لو حدث كل ذلك، فإن الواقع يُسطر حتمًا مسألة الرفض الشاملة لهذا
المشروع المُروع. افتراض كوشنر هو نفسه الافتراض الذي اعتمدت عليه خطة أوسلو للمعونات وهو أن التنمية الاقتصادية
ستحفز عملية السلام. ففي السنوات الأربع التي تلت توقيع الاتفاقية
في عام 1993، عندما اعتقد الجميع أن السلام سيكون ممكنًا على هذه الأرض المنكوبة،
أنفق المانحون الحكوميون والخاصون 4.4 مليار دولار على المساعدات. رفعوا المبالغ
بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، إلى أكثر من مليار دولار في عام 2002 وحده.
لكن حتى بدون هذه النكسات، كانت المشكلة الأساسية هي أن السلطة
الفلسطينية والاقتصاد لا يستطيعان استيعاب كل هذه الأموال بشكل فعال، والكثير منه
ذهب هباءًا بسبب سوء الإدارة والفساد. مع تدهور الوضع، بدلًا من الاستثمار في
البنية التحتية والتعليم لتشجيع التنمية الاقتصادية، كما هو مخطط لها في الأصل،
ذهبت أموال المساعدات في الحفاظ على السلطة الفلسطينية وتشغيلها يوميًا وخلق فرص
عمل عن طريق البيروقراطية، والتي نمت ستة أضعاف من 1994 إلى 2002. كان الخطأ الأساسي آنذاك والآن هو التفكير في أن أول شيء نحتاجه لبدء الاقتصاد الرأسمالي هو رأس المال.
ولكن، وكما يوضح التاريخ الطويل والمضطرب للمساعدات الخارجية، فإن
أول ما تحتاج إليه هو وجود طبقة من رواد الأعمال، قواعد أنظمة معقولة، حكومة داعمة،
ونوع مناسب من القوى العاملة. إن الإغراء الذي لجأ إليه صانعي السياسة هو
محاولة بناء هذه الأشياء من الأعلى إلى الأسفل لأنهم يتخيلون أنهم يستطيعون التحكم
في جميع المتغيرات وجعلها تعمل. التنمية الاقتصادية الحقيقية، مثل تلك
التي شجعت الصين عليها، تحدث من أسفل إلى أعلى. في السياق الفلسطيني، سيعني ذلك
تعاون إسرائيل والسلطة الفلسطينية لخلق بيئة عمل ودية مع وصول سلس للفلسطينيين إلى
الاقتصاد الإسرائيلي!.
إن التفاصيل المتسربة عن الخطة الأمريكية للتسوية بين فلسطين
وإسرائيل تكشف أن الصفقة لن تكون عادلة للفلسطينيين. ومِمَّا
توفره الخطة هو المزيد من الأراضي للفلسطينيين في الضفة الغربية وتخصيص القدس الشرقية
كعاصمة للدولة الفلسطينية الجديدة مع إبقاء المسجد الأقصى تحت السيطرة الإسرائيلية!!.
تم تسمية الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من قبل محققون اتحاديون ب (متآمر
غير مدان) رغم أن البيت الأبيض والكونغرس يناضلان
لإغلاق حكومي مطول على الجدار الحدودي لترمب الذي سيطر على وقتهم واهتمامهم.
كما أنه ليس من الواضح الدور الذي ستلعبه بعض الدول الشقيقة في خطة القرن المحتملة. تم تكليف صهر ترمب جاريد
كوشنر بوظيفة بالغة الأهمية تتمثل في التوسط في خطة سلام إسرائيلية-فلسطينية
وصياغة علاقة (WhatsApp)مع أحد الأمراء العرب، رغم أن هناك رفض كُلي للصفقة أمام المحافل الدولية
والمؤتمرات المتعلقة بهذه القضية!!.
كوشنر، من جانبه، ليس لديه خبرة دبلوماسية، مثل والد زوجته الذي جاء
به عالم المشاريع العقارية في نيويورك. رغم أنه كان مفتاحًا لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب
إلى القدس والاعتراف بالمدينة القديمة المتنازع عليها كعاصمة لإسرائيل في عام
2017. وعلى الرغم من الدعم العسكري لإسرائيل، فقد رفضت السياسة الدبلوماسية
الأمريكية لعقود من الزمن اتخاذ هذه الخطوات خشية تنفير الفلسطينيين في عملية
السلام على المدى الطويل!.
فَاتفاقات أوسلو في التسعينيات، التي تم التفاوض عليها بمساعدة
الولايات المتحدة، خلقت جيوبًا للسيطرة الفلسطينية ضيقة الأُطر والتنفيذ، لكنها لم
تمنع إسرائيل من بناء الطرق والجدران والمستوطنات الجديدة في الضفة الغربية بعد
الانتفاضة الثانية!. لا يبدو أن هناك أي ضمان بأن إسرائيل لن تفعل الشيء نفسه إذا
وافق الفلسطينيون على هذا الاقتراح الجديد الذي يجعل القدس الشرقية عاصمة لهم.
إن ما يجب الإلتفات إليه هو أنه لا يمكن إصلاح المأزق -الذي كانت سياسة
ترمب الخارجية سببًا به-من خلال التنفيذ
الأفضل أو تنسيق السياسات. المشكلة الأساسية هي أن ترمب نفسه يرفض، من حيث المبدأ،
أساسيات ما كانت عليه الإستراتيجية الأمريكية خلال معظم المائة عام الماضية. تلك
الإستراتيجية التي وضعها الرئيس وودرو
ويلسون وصولًا إلى باراك أوباما، تؤكد أن
المصالح والقيم الأمريكية تتقدم معًا؛ أن الولايات المتحدة ستزدهر بشكل أفضل في
عالم قائم على القواعد ويفضل الديمقراطية؛ وأن الولايات المتحدة ستجد نفسها في وضع
أفضل عندما تكون الدول الأخرى كذلك.
إن نظرة ترمب للعالم تبدو
صفرية، بناءً على افتراض مفاده أن المصالح
الأمريكية لا يمكن أن تتقدم إلا على حساب مصالح الآخرين. قال ذلك بصوت عالٍ وطويل
بما فيه الكفاية وبما يحتويه من تهديد، لكن يبدو أن عدم قدرة ترمب على كبح جماح نفسه من إهانة الزعماء
الأجانب بسبب شعار "أمريكا أولاً" الذي يعود للانعزاليين سيكون سببًا في إنهياره قبل بلوغ
صفقة القرن لهدفها.