يؤكد علماء الإنثروبولوجيا / علم الإنسان أن أول قاعدة أخلاقية مشتركة بين جميع البشر كانت "عامل غيرك كما تحب أن يعاملوك” وهي لذلك سميت بالقاعدة الذهبية (The Golden Rule). ويبرهنون على ذلك من وجودها في أقدم الأديان والفلسفات. ولكنها – القاعدة – حسب هؤلاء العلماء كان الغير فيها يعني: الجيران، وهم في المجتمعات القديمة أو حتى في القرية الأولية كانوا العائلة الممتدة، أو العشيرة، أو القبيلة، وليس الآخرين البعيدين الذين كانت معظم المبادئ الأخلاقية والأديان تستثنيهم من هذه المعاملة، بل وتشجع على قتلهم وإبادتهم. فأولئك كانت المصلحة المشتركة (Amity) تربطهم، وهؤلاء يهددونها (Enmity).
فعلى سبيل المثال نجد في سفر التثنية في التوراة (العهد القديم) في الوصايا العشر (5: 17) دعوة إلى السلام والعدل واحترام الناس والأملاك: لا تقتل… لا تشهد على جارك شهادة زور، وبعد (15) إصحاحاً في السفر نفسه تجد دعوة لقتلهم ونهبهم… إنهم ليسوا منا أو جيراننا (20 /10 -18): "وحين تتقدمون لمحاربة مدينة فادعوها للصلح أولاً. فإن أجابتكم إلى الصلح واستسلمت لكم، فكل الشعب الساكن فيها يصبح عبيداً لكم. وإن أبت الصلح وحاربتكم فحاصروها، فإذا أسقطها الرب إلهكم في أيديكم، فاقتلوا جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما في المدينة من أسلاب، فاغنموها لأنفسكم، وتمتعوا بغنائم أعدائكم التي وهبها الرّب إلهكم لكم. هكذا تفعلون بكل المدن النائية عنكم التي ليست من مدن الأمم القاطنة هنا. أما مدن الشعوب التي يهبها الرّب إلهكم ميراثاً فلا تستبقوا فيها نسمة حية، بل دمروها عن بكرة أبيها…”. وهو ما يفسره الحاخامات وبخاصة الحريديين واشكالهم حرفياً، وما تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني يومياً: فعلياً وعملياً.
قبل ظهور الأديان والأيدولوجيات كانت المجتمعات البدائية (حتى القروية الأولية فيما بعد) تفرض قوانينها الأخلاقية على أفرادها، بما يسمى بالضبط الاجتماعي، لأنه لم تكن هنا سلطة أو حاجة إلى سلطة خارجية لتقوم بذلك. وبعد ظهور الأديان صار رجال الدين يفرضونها على الأفراد، وبعد قيام الدولة صار رجال الدين ثم صارت الدولة بأجهزتها المختصة تفرضها على سائر الناس/ المواطنين.
في ضوء التاريخ الاجتماعي للإنسان يظهر أنه كلما كان المجتمع صغيراً، كانت المشكلات والمساوئ أقل، لأن الناس في المجتمع البدائي أو القرية الأولية كانوا أقارب أو من سلالة واحدة يعرفون بعضهم بعضاً، وكانت المصلحة عضوية، وكان الضبط الاجتماعي كافياً. ولكن الوضع انقلب بظهور الدين ثم الدولة وظهور المدن المتسعة، حيث صار معظم الناس فيها غرباء، لا يعرفون بعضهم بعضاً، وحتى الجار صار لا يعرف جاره، لا يجمعهم أمر غير المصلحة الآنية المغفلة. وبهذا زادت المشكلات والمساوئ والجرائم وكثرت الوقاحة وقلة الأدب وعدم التعاون …. وحتى إذا وقع عراك في الشارع تجد الناس يتفرجون عليه ولا يتدخلون فيه منتظرين وصول الشرطة لفضه.
يرى علماء الإجماع أن المجتمع القروي هو المجتمع الحقيقي. أما مجتمع المدينة فمصطنع. لقد دعونا قبل أكثر من عشرين سنة إلى قرينة المدينة، ولكن ذلك صار مستحيلاً لأن المخططين لم يفكروا استباقياً بتخصيص مساحة في كل حي لإقامة مركز للنشاط الإجتماعي فيه. كما لم تعد القرية اليوم كما كانت عليه في الأمس، فقد اتسعت وتمدنت واختفت البيوت المتلاصقة فيها وصارت كالمدينة في الاغتراب.
كان حجم المجتمع البدائي أو القروي قديماً لا يتجاوز الطاقة الاستيعابية للبيئة الطبيعية والاجتماعية. تطبيق هذه القاعدة على المجتمعات المعاصرة نفسّر كثيراً من الظواهر والمشكلات