الشاعر الكبير امجد الناصر يشرح كيف حالوا استدراجه لمهاجمة الرنتاوي ويكتب رمانة أم قلوب مليانة؟
لو لم يتصل بي موقع 'عمان بوست' الالكتروني الأردني طالباً رأيي في 'قضية عريب الرنتاوي'، بوصفي من أبناء 'المحافظات'، لما عرفت شيئاً عن هذه الزوبعة المثارة على مقال الكاتب الصحافي الأردني ذي 'المنبت' الفلسطيني الموسوم بـ 'من أيِّ إناء ينضح هؤلاء الإصلاحيون'. كان عليَّ أن أقرأ مقال الرنتاوي، ثم المقالات والردود التي أثارها، فهالني المنحى الخطير الذي اتخذه النقاش، وانحرافه عن الموضوع المطروح، بل دخوله، بلا وجل، في مناطق الفتنة المعتمة التي تودي بالبلاد (أيّ بلاد) إلى الهاوية ما إن يُسْتَخفّ بأمرها على ما بدا في الردود التي عقَّبت، بانفلات كامل للغرائز، على مقال الرنتاوي. فالفتنة سهلة في البلاد التي تعمل فيها نخبٌ وأجهزةٌ من نظامها على تقسيم شعبها إلى منابت وأصول ودرجات ورفع هذه المنابت والأصول إلى مستوى الفروق النوعية في الانتماء والمواطنة وشحنها بأسباب الفرقة والتنابذ. يكفي عود ثقاب، والحال، لتندلع النار في هشيم العصبيات.
أولا، دعوني اقل إنني لست، هنا، في معرض الدفاع عن عريب الرنتاوي فهو قادر، بما يتصف به من جرأة وحجَّة ومخزون لفظي (حادٍّ أحياناً) على أن يفعل ذلك. ما يهمني، في هذا الإطار، هو تذكير جميع الذين خاضوا في شأنه أن القضية الرئيسية لا تتعلق بالأشخاص وخصوصياتهم، ولا بفتح سجلاتهم الحقيقية أو الملفَّقة، بل بالموضوع قيد الطرح، وأن أيّ موضوع، مهما كان حساساً، قابل للنقاش، ما دام هذا النقاش يكفل لجميع أطرافه أن يدلوا بدلوهم فيه ويصون حقهم في تبيان وجهات نظرهم والدفاع عنها من دون ترهيب. النقاش الحرُّ، العقلانيّ، والمسؤول الذي يُعرِّض القضايا والمواضيع الحساسة، أو المسكوت عنها، إلى الهواء الطلق لا غضاضة فيه ولا تثريب.
ثانياً، دعوني أقل، أيضاً، إن نبرة مقال عريب الرنتاوي تنطوي على توتر عصبي ولفظي لم ألحظه في مقالاته التي قرأتها، وخصوصاً ما يتعلق منها بقضية الإصلاح في الأردن والحراك الشعبي الذي تعرفه بلادنا في سبيله، ما جعلها تبدو صادمة للقراء ابتداء من العنوان. عدا هذه الملاحظة الشكلية لم أر في المقال ما يستحق كل تلك الردود الغاضبة، المُزبدة، المنذرة التي أخرجت الرجل 'من الملّة'. وبصرف النظر عمن يتناولهم الرنتاوي بمقاله (وأنا لا أعرفهم حقاً) فإنَّ القضية التي يطرحها (إن كنت فهمتها على وجهها الصحيح) قابلة للنقاش، بل من الضروري نقاشها بهدوء ومسؤولية.
فهمت من مقاله أن بعض المنادين بالإصلاح في الأردن يرون أمره مقصوراً على قسم بعينهم من الأردنيين دون غيرهم. أي بصريح العبارة: أردنيي شرق النهر. فهمت، كذلك، أن هؤلاء يرغبون، من خلال حراكهم، بتوقيع عقد اجتماعي جديد مع الدولة الأردنية يستثني مكوِّناً أساسياً من الشعب الأردني هم المتحدرون من أصل فلسطيني باعتبارهم 'ضيوفاً' على البلاد، وليس لـ 'الضيف'، مهما كان عزيزاً، ما لصاحب البيت!
نحن في الأردن أمام وضع ديموغرافي فريد من نوعه. نعرف، كلنا، أن هناك مكوّنين كبيرين اثنين يشكلان الشعب الأردني اليوم (الخطاب الرسمي الأردني نفسه يتحدث عن أصول ومنابت!) هما أردنيو شرق النهر والأردنيون المتحدّورن من أصل فلسطيني. هذه حقيقة لا تحتاج الى اخفاء أو تمويه لأنها ليست عورة حتى نواريها أو ننصرف عنها انصراف المعيب أو الخجلان. ولكن هذه 'الحقيقة' ذات طابع عمومي وفضفاض. فهاتان الكتلتان ليستا متقابلتين. تنظران الى بعضها شزراً وريبة وتنفصلان، تمام الانفصال، في الدم والهوية والعيش والمصلحة والحيِّز. أبسط أردني يعرف أن لا وجود لهاتين الكتلتين على النحو الذي أشرنا إليه ولا على النحو الذي عليه الواقع. هذا الانفصال الحاد الذي يكاد أن يرقى الى رسم حدود فاصلة لشعبين، أو حتى لإثنيتين، لا جود له إلا في خيال الإقصائيين المريض. التداخل بين ما هو أردني (من شرق النهر) وما هو أردني من أصل فلسطيني لا يمكن فضَّه بجرَّة قلم أو بنفثة غضب. فهو يحضر، موضوعياً، في سنيِّ العيش الطويلة المشتركة وفي التركيب الطبقي الذي لا يستثني 'هوية' من دون أخرى، مثلما يحضر في الدم والنسب والثقافة.. وفوق كلّ ذلك في القانون.
التركيب الديموغرافي الأردني الفريد هو عامل قوة للبلاد لا عامل ضعف، عامل إثراء لا عامل إفقار، وقد تأكد ثراء هذه الفرادة الديموغرافية في تجربة بناء وطن حديث اسمه الأردن. فنحن، في الأردن، لا نشبه بعض الدول الخليجية ذات التركيب الديموغرافي المختل، بشدة، لغير صالح 'السكان الأصليين'. ليس لدينا، والحال، قانون خاص بالأردني 'الأصلي' وقانون خاص بالأردني 'الوافد' ولن يكون.. لأن ليس بيننا، ببساطة، 'وافدون' و'كفلاء'. أما ما جاء في بعض الردود على مقال الرنتاوي من أن الأردنيين من أصل فلسطيني 'ضيوف' على البلد فليس فيه شيء من الكرم الذي يظن أصحابه أنهم يصدرون منه بل يرقى، في ظني، إلى مرتبة العنصرية الصرف. فالضيف لا تدوم ضيافته خمسة عقود أو ستة! أيُّ ضيف هذا الذي يشارك في كل مناحي الحياة في البلاد ويدافع عن أرضها وسيادتها ويسهم في تمويل الخزينة بالضرائب؟ كاتب هذه الكلمات نال الجنسية البريطانية بعد ست سنين، فقط، من الإقامة في لندن! فمعيار المواطنة في بريطانيا (والغرب عموماً) ليس الأصل ولا الفصل بل دفع الضرائب! أنت دافع ضرائب أنت إذن مواطن! هذا هو معيار المواطنة في بلاد الله التي تحترم كدَّ الناس وعرقهم واسهامهم في نمائها وخيرها العام.
ثالثاً، نأخذ على قسم كبير من الأردنيين المتحدِّرين من أصل فلسطيني ضآلة مشاركتهم في الحراك الإصلاحي الراهن وعندما ينخرط بعضهم فيه ويربطه بضعف تمثيل قسم كبير من الأردنيين في هياكل الدولة ومرافقها تعلو صيحات الذعر من فزَّاعة الوطن البديل والأجندات الخفيّة! المطالبة بالاصلاح في الأردن ليست حكراً على مكوّن دون آخر من الاردنيين. فعندما نتحدث عن اصلاح حقيقي، وليس مجرد ترقيع أو تجميل لما هو قائم، فهذا يعني الصدور من موقع المواطنة والوعي بها والعمل على توطيد أركانها دستورياً ومسلكياً. والمواطنة كلٌّ متكامل. ليس في المواطنة مفاضلة. إنها غير قابلة للقسمة. فكيف يمكن أن يكون هناك إصلاح يفيد منه قسم من المجتمع الأردني ويقصي قسماً آخر؟ ما هو دِين هذا الاصلاح؟ الإصلاح، ببساطة، هو سعي لمشاركة شعبية أوسع في الحكم والانتفاع بالخير العام الذي ينتجه المواطنون. الإصلاح، الذي يعمل عليه الحراك الشعبي الأردني، لا يشبه ما تعرفه بلاد مثل سورية أو ليبيا ولا ما عرفته مصر وتونس، إنه يصدر من توافق، عام، على الدولة وطبيعة الحكم ولكنه يعمل على جعل هذه الدولة لكل مواطنيها، موظفة عند مواطنيها، ومعبّرة عن مواطنيها.. كل مواطنيها.
رابعاً، يطرح مقال عريب الرنتاوي والردود عليه، على نحو مباشر أو غير مباشر، سؤال 'الهوية': من هو الأردني؟ ما هي الهوية الأردنية؟ وهذا سؤال طالما أرَّق الحركة الوطنية الأردنية التي عملتُ، شخصياَ، في اطارها أو بالقرب منه. فالتداخل، الفريد من نوعه عربياً، بين ما هو أردني وما هو فلسطيني يصعب القطع فيه بقول عابر. وربما لن يُبتَّ بأمره إلا بعد أن تجد القضية الفلسطينية حلاً عادلاً ودائماً لها.. وهو حلٌّ لن يكون، بطبيعة الحال، على حساب الأردن أرضاً وشعباً ودولة. ولكن حتى يحين ذلك الوقت هناك مرجع واضح لهذه 'الهوية' هو الدستور الأردني الذي يعتبر أن كل من ولد لأب أردني هو أردني الجنسية. فلا فرق، في هذا التعريف البسيط، بين ابن 'المحافظات' وابن عمان أو الزرقاء. إن سؤال الهوية هو سؤال دستوري بقدر ما هو سؤال مواطنة وعيش وحياة ومصالح مشتركة.
لن أخوض، هنا، في قرار 'فك الارتباط' الذي يرى البعض أنَّه صادر من السلطة التنفيذية وليس التشريعية، ففي ذلك تشتيت للموضوع وخوض في تفاصيل قانونية ودستورية لست على بيّنة منها. ما يهمني هنا هو تلك النغمة النشاز، التي تصدر من جوقة منسَّقة الأدوار، تستعيد أزمنة قاتمة وتدفع بالبلاد (للمفارقة) في ظل أجواء 'الربيع العربي'، وما أشاعته من وعيٍّ عميق بالحرية والكرامة، إلى شفير الفتنة.. والاحتراب.
من الواضح أننا في الأردن، وربما في غير مكان عربي، في حاجة إلى إصلاحات عميقة لا تتعلق بالنظام وحده بل، أيضا بمن ينادون باصلاح النظام. فثورة الشباب العربي تهدف، كما أتصور، إلى ما هو أبعد من إصلاح نظام أو تغييره. إنها ثورة ضد البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي انتجت الاستبداد العربي أو عزَّزت بقاءه كل هذا الوقت.. وجعلتنا أمثولة، بين أمم الأرض، على الخنوع والتبعية وطأطأة الرأس.