كنتُ أستمع إلى فيديو يتحدث فيه السياسي والمحامي والقاضي التونسي عبد الفتاح مورو، من حزب النهضة. ويثير مورو قضية ينتقد بها أداء الإسلاميين من الناحية المعرفية، لكن ما يقوله ينطبق نفسه على العلمانيين –أو من يوصفون بذلك. يقول مورو:
"عندما أردنا أن ننفتح على العالم الجديد والجامعة، قلنا لأبنائنا: روحوا تعلموا الطب، والهندسة، والهندسة الفِلاحية، وكيفية نقل الناس بالقطار والطائرة. وخرّجنا مجموعة كبيرة من شباب خدَميّ. هذا الشباب الخدَمي لا علاقة له بالفكر أصلاً. بينما المدرسة التي من شأنها أن تُكوِّن مغيري العالم، هي مدرسَة الفكر؛ هي العلوم الإنسانية التي هجرها الإسلاميون كما هجرها الكثير من الناس. ولذلك أصبحنا عاجزين عن أن نفهم الحراك الاقتصادي والحراك الاجتماعي لأننا لم ندرس، لا علوم الاجتماع، ولا علوم التربية، ولا علوم السياسة، ولا علوم الاقتصاد، ولا علوم العمران البشري”. وقد تقدمت الأمم "علينا لأننا لم نجد من يفتحون علينا باب الواقع والحياة… التقدم لا يأتي بكثرة الأطباء وكثرة المهندسين. وإنما يأتي بمن يدرك كيفية التغيير”.
ربما لا يكون دقيقاً أن أبناءنا لا يدرسون العلوم الإنسانية في الجامعات. كما أن التقدم يحتاج المهندسين والأطباء إلى جانب الآخرين. لكن الواقع هو أن كثرة من الناس يذهبون إلى دراسة الإنسانيات على مضض، عندما لا تتيح لهم علاماتهم ارتياد كليات العلوم. ولا يُقتصر الأمر على التفضيلات الشعبية لدراسة الطب والهندسة -لأسباب تستحق التأمل في ذاتها- وإنما ثمة نزوع رسمية إلى التمييز بين ذوي التوجهات العلمية وسواهم من ذوي الاتجاهات الإنسانية في التعليم. ويعكس تخصيص التخصصات العلمية للطلبة ذوي العلامات العليا اعتقاداً بأن الإنسانيات تستلزم طلبة من ذوي التأهيل الأدنى، وأن أدوارهم ومساهماتهم المتوقعة ليست ذات صلة.
ينعكس هذا الاتجاه على النفسية في حرم الجامعات، فيشعر طالب الطب بالتميُّز عن طالب علم الاجتماع وبأهميته عنه. ويبدو وكأن ذلك يقول أن إسهام جالينوس، الطبيب الإغريقي القديم، أكثر أهمية للبشرية من إسهامات أرسطو وأفلاطون. وأن ابن سينا الطبيب أهم من ابن سينا الفيلسوف ومن ابن خلدون،عالِم الاجتماع. وفي الممارسة الآن، لا بد أن يظهر عمل الطبيب في معالجة العلل الجسدية، وعمل المهندس في بناء عمارة أو طريق. لكن عمل خريج التاريخ أو العلوم السياسية أو الاجتماعية لا يظهر بشكل مؤثر يُعتد به، وكأنه درس ما درس لأداء عمل ثانوي فائدته الوحيدة هي الراتب، إن تيسّر، ومجرد تحقيق المطلب المجتمعي بحمل شهادة جامعية.
من المفارقات أن الحضارة الإسلامية، التي يتغنى بها اللسان الجمعي بلا تأمُّل جدّي لكيفياتها، قامت على إسناد قيمة متساوية للعلوم والإنسانيات. كانت ترجمة فِكر وفلسفات وآداب الحضارات الأخرى تحظى بنفس أهمية ترجمة الرياضيات والطب والهندسة، وربما فاقتها كميا. وانطوى ذلك على إدراك واع لحقيقة أن بناء المجتمعات لا بد أن يجمع بين الإنشاء المادي وبين فهم الناس لطبائعهم وعلاقاتهم وحركة العالَم الذي يعيشون فيه. وكما قال مورو في الاقتباس أعلاه، فإن "التقدم… يأتي بمن يدرك كيفية التغيير”.
عندما نتأمل طبيعة الاضطرابات التي تضرب مجتمعاتنا الآن، لا بد أن نفتقد مساهمة الفِكر في تحليل الجوهريات وتعقب الأسباب التي وضعتنا في هذا الارتباك، واقتراح طريق الخروج. وقد يقول قائل إن الأذن تعبت من ضجيج الآراء والمداخلات والمقالات، وما تسمى تحليلات. لكنّ كل هذا لا يعدو في الحقيقة كونه مُداخلات شعبية صوتية، وخوض في التوصيفات والجزئيات، والذي لا يرقى إلى مستوى النظرية الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية المتماسكة التي تصنع مشروعات تغيير استراتيجي ومنهجي.
يبدو هذا التغييب لأدوار أصحاب الإنسانيات والتقليل من شأنهم لحساب جماعة العلوم، عملاً تقصد به السلطات المتشبثة الاحتماء من اقتراحات الفيلسوف وعالِم الاجتماع والسياسة، وليس الطبيب. (ليس لدينا أناس كثيرون من طبقة "العلماء” في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، برغم وفرة الخريجين -أو أننا لا نرى عملهم).
كانت سمة شهر العسل القصير من النهضة العربية الحديثة في القرن الماضي أنه أتاح مساحة لعمل المفكرين والمنظّرين والأدباء والفلاسفة، الذين أثروا في العقل الاجتماعي. لكن هؤلاء أعيدوا إلى الهوامش، ليملأ الفراغ "الداعشي”، الذي "يؤثث الحراك التغييري في العالم الإسلامي والعالم العربي”، بتعبير مورو.