"صوت الجنوب" يكسر صمت العزلة في معان وينصف "أخت الرجال"


تدخل إذاعة "صوت الجنوب" عامها الخامس لتواصل إحداث تغيير مجتمعي في معان المهمشة وقراها القابعة على سيف الصحراء بين عمّان المترفة والمناطق التنموية الخاصة من العقبة إلى البتراء.

من أهم انجازات "صوت الجنوب" قدرتها على كسر تابوهات مجتمعية عديدة في بيئة محافظة شديدة التدين, وساهمت في منح المرأة فرصة لإثبات الذات وتغيير النظرة التقليدية السائدة تجاهها.

على مدى ستة أشهر منذ بدايات ال¯تأسيس, لم تتجرأ أي فتاة أو سيدة على تقديم مداخلات على الهواء بسبب الانطباع السائد بأن "صوت المرأة عورة".

اليوم, تشكّل المرأة نصف كوادر الإذاعة بقيادة الزميل د. باسم الطويسي, فيما نسجت شبكة "اتصال نسوي" قوامها 16 مندوبة على امتداد قرى وبلدات المحافظة, التي تقطنها 120 ألف نسمة- 50 ألفا منهم في قصبة المدينة.

ينظر إلى جامعة الحسين التي تحتضن إذاعة الجنوب على أنها أنجح مشروع تنموي في معان خلال العقد الماضي, بل أولى نقاط التحول الاستراتيجي في المملكة الرابعة بعد محطة شق الخط الحديد الحجازي عام .1908 وتثبت "جامعة الحسين" على مر الأيام على أنها رافعة استثنائية لتطوير بيئة ثقافية وتنموية في منطقة شديدة الفقر والانغلاق.

ففي غياب برامج تنموية مستدامة, ساهمت الإذاعة في تعديل المزاج العام واستعادة ثقة المعانيين بإرثهم, فضلا عن تعزيز ارتباطهم بالوطن. وهكذا انتقل صوت المواطن المنزعج من ضعف الخدمات, الفقر والبطالة من الشارع إلى أمواج الأثير, في مدينة شهدت أحداث شغب أعوام ,1989 ,1996 ,1998 2001 وخريف .2002 وبذلك شكّلت الإذاعة متنفسا لفئة الشباب في تضاريس قاسية طاردة للسكان.

انطلقت رسالة الإذاعة من الخصوصية الإيجابية لسكان المنطقة, من كرم, شهامة وتكافل مجتمعي, صوب تعزيز منظومة قيم شمولية بدءا من سيادة القانون إلى حماية المال العام.

اليوم, تشكل النساء نصف عدد الهيئة الإدارية لجامعة الحسين, 82 % منهن من المحافظة بعد أن كانت فرصة حصول خريجة التوجيهي على تعليم جامعي كبرى مشاكل المرأة هناك, لآن التقاليد لا تسمح للفتاة بالتنقل خارج البلدة والمبيت في سكن بعيد عن عائلتها.

اليوم, تحتضن الجامعة مجتمعا جديدا قوامه أكثر من 10 آلاف شخص بين أكاديمي وإداري من بينهم 7000 آلاف طالب وطالبة ما ساهم في تطوير معان من مجتمع شبه قروي إلى مركز مدني-تجاري تمدد حتى أطراف الجامعة.

من يستمع للإذاعة, يلحظ مسارعة المسؤولين في معان والعاصمة للاستجابة إلى شكاوى أهل المدينة وملاحظات في البرامج الحوارية التفاعلية والتغطية الميدانية. رئيس الوزراء السابق سمير الرفاعي أطلق أول تصريح له على مستوى الوطن عبر إذاعة معان, حسبما يستذكر القائمون على "صوت الجنوب", ربما لإدراكه أهمية التواصل مع سكان المحافظات المهمشة.

لكن باستثناء بقعة الضوء في حرم الجامعة على مشارف معان, أخفقت غالبية خطط التنمية رغم تكرار الوعود الحكومية على مدى العقود الماضية, ما عمّق حالة الاغتراب بين الشباب العاطل عن العمل.

في البال, حزمة مشاريع "ثورية" بالتعاون مع القطاع الخاص ثبت لاحقا أنها وهمية, مثل تصنيع سيارات لاند روفر, إحياء مصنع الزجاج, سكة الحديد ومحاجر المحافظة.

قبل أشهر, تداعى شباب المدينة لمنع تاجر خردة من استكمال هدم مباني مشروع مصنع لاند الروفر, الذي خصصت له أراضي تعود لأملاك الدولة. وكان التاجر يسعى لتقطيع البنية التحتية وبيعها خردة من أجل استرداد ديون له على مالك المشروع الوهمي, خالد شاهين. إلا أن الشباب الغاضب طردوا الآليات ومنعوا نقل المخلفات.

ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه.

"مستثمر"كويتي أغلق مصنع الزجاج وشتت عماله بعد أن وعد بإقامة مشروع بقيمة 170 مليون دينار وتوفير 2000 فرصة عمل. وكان هذا الرجل اشترى المصنع القديم المعطل على 500 دونم مقابل خمسة ملايين دينار. لكنه بدلا من تنفيذ المشروع, فرز الأراضي وعرضها للبيع مع معدات المصنع.

عام ,2007 خطّط لإنشاء منطقة اقتصادية على مراحل بتكلفة 200 مليون دولار. لكن مشاريع التشغيل اختزلت إلى مجمعات سكنية في مواجهة حرم الجامعة.

تمر السنوات ويتكرر الفشل تلو الآخر, وتظل هذه المدينة بعيدة عن بؤرة الانجاز باستثناء زيارات عابرة لمسؤولين وضخ أموال في مسارب غير منتجة. قصة معان تعكس عمق الفشل السياسي, الاقتصادي, الاجتماعي والتعليمي على مستوى الوطن وتظهر في عين الوقت كيف يفترض أن يساهم مشروع أكاديمي ذو أبعاد تنموية في تحضير الأرضية الملائمة لاحتضان تنمية مستدامة لا تتغير عوائدها على المواطن والمجتمع من حوله بتغيير الحكومات.

فجامعة الحسين, حالها حال الجامعات الحكومية الأخرى, ما تزال مسرحا للتوغل الحكومي والأمني على الحياة الأكاديمية. وهذا دليل آخر على فشلنا في إصلاح الجامعات الحكومية والتعليم العالي. الحكومة تواصل فرض وصايتها على الجامعات عبر أدوات قانونية, إدارية وأمنية. وما انفكت تتعامل مع أعضاء هيئة التدريس بمنطق الولاء والمحسوبية. ولا بد من منح الجامعات استقلالية تامة, إطلاق الحريات الأكاديمية وإداراتها حق التصرف بالوظائف وخطط التطوير من دون تدخل. ويفترض أيضا سماع صوت أساتذة الجامعات والتركيز أكثر على حرية الطلاب في التنظيم النقابي وحرية التعبير, إن أردنا رؤية نهاية لمجتمع الرعب في الجامعات, حيث يعيش طلاب وأكاديميون تحت سطوة الخوف والقلق.

الإصلاح السياسي يتعزز أيضا عبر جامعات شبابيكها مفتوحة على فضاء الحرية والإبداع, التي يفترض أن تشكل حاضنة لتنمية الوعي السياسي, توفير فرص للجندرين لتطوير الذات, توفير العلم والمعرفة, تشجيع الطلاب على احترام الرأي والرأي الآخر وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار.

واقع معان الاقتصادي الصعب يؤشر إلى إخفاق خطط التنمية على وقع قرارات غير مدروسة اتخذت أحيانا كثيرة تحت ضغوط شعبية وكلفت الخزينة خسائر كبيرة من دون محاسبة. نهاية بداية مصنع اللاندروفر كانت واضحة من اليوم الأول, وعكست كيفية توغل متنفذين على عملية صنع القرار والضغط باتجاه تنفيذ صفقات بعيدا عن المصلحة العامة.

معدلات الفقر والبطالة لم تتغير على مستوى الوطن وعلى مستوى محافظة معان خلال السنوات الماضية رغم تنامي حجم المنح والمساعدات المقدمة للمملكة, ذلك أن الجميع يدرك أن عمليات التنمية التي ادعت الحكومات ممارستها ضمن خطط وبرامج مخصصة اتخذت بناء على معطيات خطأ.

إقرار السياسات الاقتصادية السابقة والحالية كان يتم بمعزل عن دراسة واقع واحتياجات المجتمعات المحلية, فولدت غريبة وماتت في مهدها. ولهذا ارتباط جلي مع مسألة الإصلاح السياسي والتطور الديمقراطي في المجتمع, ذلك أن كليهما يلعبان دورا مهما في تحقيق الإجماع الوطني ضمن إطار مؤسسي ودستوري. فالحوار الموسع بين أطياف المجتمع يفضي في النهاية إلى رؤية تنموية واضحة المعالم ومحددة الأهداف قابلة للتنفيذ والمساءلة إن أخفقت, بدلا من ترك تلك الخطط بأيدي فئة واحدة تهاجمها فئة أخرى وتبقى المسألة بين الأخذ والرد بسبب شخصنة العمل الاقتصادي وافتقاده لروح التنمية المستدامة.

إن نجحنا يوما في تحقيق تنمية مستدامة في معان, نكون قد نجحنا على مستوى الوطن. فهل يتعلم المسؤولون من درس هذه المدينة, التي تتحول على إيقاع أثير محلي نهضوي ممعن في التغيير الإيجابي وسط قوالب متجمدة.0

rana.sabbagh@alarabalyawm.net