الديمقراطية المحلية أولا
يشكل النقاش الذي دار بين مجلسي النواب والأعيان حول قانون البلديات ظاهرة صحية. وإن بدا فيه مجلس النواب أكثر تقدمية، لكنه رضخ في نهاية المطاف لإرادة "الأعيان"، وتحديدا فيما يتعلق بالمؤهل العلمي لرئيس البلدية، حيث نحتاج في الحالة الأردنية الإبقاء على هذا الشرط مرحليا حتى تنضج تجربة المجالس المحلية، ويصل الناس إلى درجة من الإدراك والوعي في تصعيد من يمثلهم، فالتقييد القانوني المرحلي يعد أداة من أدوات غرس الديمقراطية وتشريبها للناس، ما يعني ضرورة أن يدرك المشرع أن التقييد في بعض التشريعات الإصلاحية الذي قد يبدو للوهلة الأولى متناقضا مع مبدأ المساواة هو في الحقيقة العتبة الأولى لبناء مجتمعات ديمقراطية ناضجة.
لا يقل قانون البلديات والمجالس المحلية أهمية وقيمة عن قانون الانتخاب، بل يشكل الأول حجر الأساس للحياة الديمقراطية. ولكن للأسف تم تمرير قانون البلديات بدون أن يأخذ حقه في النقاش الفعلي وفق الصيغة التي سوف تبقي على استمرار آليات الهيمنة التقليدية للحكومة المركزية، وسوء إدارة الموارد المحلية، واستمرار توليد نخب محلية ضعيفة غير ممثلة للناس وتفتقد ثقة مجتمعاتها.
يشكل المجتمع المنتخب الذي توفره البلديات، من رؤساء وأعضاء مجالس في نحو 93 بلدية، حوالي 1200 ممثل منتخب، وهم بذلك أكبر مجتمع منتخب في الدولة، وهؤلاء هم الأقرب إلى المجتمعات وإلى تفاصيل الحياة اليومية، وهم بموجب القوانين سلطة تنفيذية محلية. هذه الخصائص تدل على حجم تأثير هذه المجالس في مسألتين حاسمتين في مستقبل الأردن والأردنيين، وهما مستقبل الديمقراطية وقدرة المجتمع الأردني على استيعابها في ممارساته اليومية وتحويلها إلى قيمة ثقافية ناضجة ومحسومة؛ والمسألة الثانية ترتبط بتحسين نوعية الحياة، وهي تحد حقيقي تعد البلديات الأقرب إلى فهمه، ويفترض أن تكون الأكثر صلة بمواجهته. حان الوقت أن نعيد التفكير بالديمقراطية المحلية انطلاقا من البلدية، كأول وحدة سياسية منتخبة تمثل حكومة محلية بالفعل، فكل تجارب الديمقراطيات الناضجة في العالم بدأت من الارتقاء بالمجالس المحلية وإنضاجها وحماية استقلاليتها، وأن نعيد إليها قوة السلطة التنفيذية الفعلية محليا ولو على مراحل في الخدمات الأساسية، بالطرق والنقل والمدارس والتعليم والصحة.
حان الوقت أن تصبح الديمقراطية المحلية العنوان الأول على أجندة الإدارة المحلية، وعنوانا أساسيا على الأجندة الإصلاحية بما يتجاوز العناوين البراقة للأقاليم والمركزية واللامركزية وقصص جيوب الفقر ودراسات الجدوى والمشاريع الصغيرة والكبيرة التي دوخت البلاد والناس على مدى عقدين ولم تحل مشكلة قرية أردنية واحدة. نتذكر قصة انتحار مجلس بلدي ذيبان نهاية العام 2009، حينما أقدم على الاستقالة الجماعية احتجاجاً على الأوضاع المالية الصعبة التي تشهدها البلدية، وعجزها عن تقديم الخدمات. حينها لم نلتفت جيدا إلى البنى المحلية في مشروع الإصلاح، وأن تلك الاستقالة ستكون بداية الحراك الشعبي لمنطقة ذيبان الذي شكل على مدى هذا العام ظاهرة سياسية واجتماعية ملفتة.
الديمقراطية المحلية أولا لأنها تعلم الناس محليا الرشد والإدارة الحكيمة وحماية مواردهم، وتعلمهم كيف يجتث الفساد من منابعه الأولى؛ والديمقراطية المحلية أولا لأنها تعلم الناس أن لا يساقوا بالسلاسل إلى صناديق الاقتراع، بل لأنها تربطهم بمصالحهم في معاشهم وحياتهم اليومية؛ والديمقراطية المحلية أولا لأنها الصمام الفعلي لضمان حقوق الإنسان وكرامته في الممارسات اليومية.