عن الثقافة وتأثيرها… محاولة تجاوز الراهن وضرورة التفكير في المستقبل


 

 

لا يمكن بحال فصل الثقافة عن السلوك، باعتبار أن أحد أهم مرتكزات تأثير الثقافة هو أن يتحول المثقف إلى قدوة يتأثر بها الآخر المتلقي، وبالتالي السلوك الذي يحتاج إلى عملية تقويم من خلال إنتاج الثقافة، لذا السؤال هو: كيف يمكن أن يؤثر الفعل الثقافي في تقويم المجتمع وسلوك الفرد، وبالتالي إنتاج مجتمعٍ مثقّف قدر الإمكان؟ عن هذه الرؤية جاءت آراء بعض المثقفين العرب ..
نتائج أعمق
القاص العراقي كريم صبح يعتقد أن ثقافة أيّ مجتمع هي وجهه المشرق الذي قد يندرج تحت مفهومي «التحضر» أو «الرقي». ويضيف أن المفهومين في الحقيقة هما انعكاس لتلك الثقافة وتعبير عنها. لكنه يرى أن الثقافة بحركة تفاصيلها اليومية أشمل من المفهومين المذكورين، وتأتي هنا معبرة عن مدى تحضره أو رقيه، وفي النتيجة هي فعل لفئات أو شرائح مختلفة من مجتمع واحد. ويشير إلى أن هذا الفعل يمكن أن ينعكس إيجابا على الأفراد تقويما وضبطا للسلوك. ويبين أن الكثير من الشباب ممن اعتادوا على الهرج والمرج في أماكن معينة، يمكن أن يطلبوا هم أنفسهم من غيرهم الإنصات إلى قطعة موسيقية أو أغنية، وعدم التأثير في استمتاع الآخرين بها. ولكنه يستدرك من جهة أخرى فيقول إن معاشرة المثقفين قد تنطوي على نتائج أعمق. ويوضح أن مثقفا محبا للوحات الجميلة ينجم عنه حب للرسم والتنبه إلى الجمال والفرار من القبح ومزاملة مثقف نهم إلى الكتب أو القراءة على نحو عام، قد تنتشل أحدهم من مصير مجهول أو من إرهاصات الإحباط والضياع والحد من نزعته الإجرامية بتوجيهه إلى ما يخلق الأمل في نفسه، ويدعوه إلى التشبث بفرص الحياة بعيدا عن التفكير بالانزلاق إلى مهاو خطيرة.
التفكير في المستقبل
الروائي اليمني الغربي عمران يرى من جهته أن المسألة شاملة لا يتحمل المبدع كل الأمر في النهوض بالمجتمع وتغييره، فهو كائن خلاق لا يهدف بالضرورة من فعله إصلاح خلل، بل التعبير عن وجوده وآلامه ومعضلة ما يعتمل من حوله. تلك الأسئلة هي أداته. تحريك الراكد إحدى خصائص نتاجه. ويعتقد أن المسألة شاملة، وقد كُبل كل شيء بالمطلق والأبوية ومسألة شائكة هي الدين. مجتمع حوّل أفراده عقولهم إلى مباصق لغيرهم، لا يستخدم أحد عقله ومن يستخدمه يتهم بالمروق. ويضيف أنه في كل هذا لا نحمل المبدع فعلا تحويليا شاملا، فما عليه إلا أن يبوح ويغرد، ولا عليه تغيير حتى اتجاه مسار نسمة طائرة، أن يعلن إيمانه بالنسبية وضد المسلمات والمطلق والغيبيات، فهذه رسالته. وما دون ذلك على الجميع تحمل مسؤولية زحزحة ما يجثم على العقول من خرافة وغيبيات ستظل تسحبنا نحو القاع.
إننا نعيش جميعنا لتكريس ثقافة التخلف، فمن تغييب العقل إلى الترويج للصنمية، مشدودين لحياة الماضي لا النظر إلى الغد.
فالمبدع يظل في غربة إن لم يرضخ للسير مع نهج يكرسه المتأسلمون من كل الاتجاهات. علينا أن ندعو إلى أن يكون الفعل قائدنا، لا ما يمليه الآخر، وما قاله الراحلون. أن نشير في إبداعنا إلى أهمية الغد والتفكير فيه، أن نواجه قبح المطلق وإلغاء العقل، ولا نواجه تلك الأفكار التي يرسخها المتأسلمون بإعانة من ساسة يتصرفون بعهر في محاولة للاستمرار على مواقعهم.
السلوك الديمقراطي
الشاعرة ومقدمة البرامج اللبنانية عبير شرارة ترى الأمر بطريقة أخرى وتقول عكس الآخرين الذين يقررون أن استقرار النظام الاقتصادي يؤدي إلى الاستقرار السياسي، أو أن استقرار النظام السياسي يعكس نفسه على الاقتصادي، فإننا بعكس أصحاب النظريتين، نرى أن الأساس هو إنشاء وبناء وصنع نظام ثقافي موحَد، أي الاتفاق على مفاهيم موحَدة ومُوحِدة للوطن، الموطن، المواطنية، العاصمة والحدود. وترى أن الثقافة هي كتاب تاريخ موحد، كتاب تربية وطنية موحد، وتزيد بقولها إن الثقافة في مضمونها قانون انتخابي متطور حديث وعادل، يقبل الآخر بتمثيله. الثقافة هي التمرد على المفاهيم الموروثة المتخلفة، التي تستعبد المرأة تتعاطى معها كمخلوق ضعيف هش لا تنتمي إلى مجتمع الرجل، فإنتاج الثقافة هو إنتاج سلوك ديمقراطي للفرد الرجل أو المرأة في تعاطيه من المنزل إلى العمل إلى إنتاج الدولة والمجتمع. وتعيد تعريف الثقافة من وجهة نظرها بأنها صفة الموصوف تتبعه في جميع حالاته، لذلك يجب أن ننتزع مجتمعنا وأنماط السلطات التي تحكم أقطارنا من تأليه الحاكم إلى ثقافه تتيح لنا المشاركة في إنتاج الحكم، وتمكين الواقع من تداول السلطة، خصوصا السلطة الثقافية في مؤسسات المجتمع المدني، حيث يعتبر من هم على رأس المؤسسات أنهم يملكونها.
توارث الثقافات
وترى الروائية والناقدة المصرية منى منصور أن الثقافة هي مجموعة المعارف والخبرات والفنون والعلوم يكتسبها الفرد من خلال التعايش في مجتمع ما. هذه المعارف تختلف من مجتمع إلى آخر، حسب أيديولوجياته وطبيعة مناخه والمتعارف عليه، لذا فهي تعتقد أن التربية لها دور رئيسي في إثراء هذه المعارف المكونة للعملية التثقفية، وخلق حراك معرفي ثقافي وإبداعي خاص للمجتمع بما يتواءم مع طبيعة البيئة والعرف السائد، إلا أن ذلك لا يعني خضوعها للجمود والثبات، فهي تساير التطور ولكن مع الحفاظ على الموروث البيئي والالتزام بمعايير أخلاقية غير قابلة للنضوب، فهي تسقى من نبع مستمر تتوارثه الأجيال، بما يعنى أن الثقافة هي نتاج مجتمعي ملك للمجتمع ككل، وتلتزم بمعيار أخلاقي يلعب دورا كبيرا في تقويم سلوك الأفراد وترشيد القيم من جيل إلى آخر. كما تشير إلى أن الإلمام بثقافة الغير والتواصل الحضاري والتربوي يضيف ثراء معرفيا ليس بالقليل، ومما لا شك فيه فإن الفنانين على اختلاف أنواع الفن لهم دور لا يقل عن المؤرخين أنفسهم، فالفن لغة عامة وسهلة للتواصل بلا أي غموض أو الإغراق في الأيديولوجيات والمعاني الأكاديمية والتراثية الضحلة، كذلك للأدباء بما يحملون على عاتقهم من رسالة الخطاب للمجتمع أيضا دور فعال في إذكاء معاني الرقي واتساع آفاق الثقافة وكذلك توصيل معان سامية بأساليب سلسة، سواء بإدراجها في شكل مخطوط في كتب أو ببعد مشهدي كالرسم أو النحت وغيرها من ساحة الفن التي تتشكل فيها أساليب الطرح والتناول، بما يخدم الثقافة ويدفع بشكل إيجابي نحو تعميم قيم تربوية والالتزام بها، سواء من الناحية الدينية أو الاجتماعية.