الدولة المدنية والدولة الدينية



يكثر الحديث وبخاصة في هذه الظروف عن مستقبل الدولة في البلاد العربية، ويستعمل البعض فزّاعة الدولة الدينية التي تصوّر بأنها العودة الى عصور سابقة، لا ينظر فيها الى الجاني المضيء وانما الى الجانب السلبي والمعتم، مفهوم الدولة الدينية عرفته اوروبا إبان الفترة الكنسية وقبل النهضة الاوروبية والثورة الصناعية، وكانت الكنيسة هي الامر الناهي بعد ان تبنت الدولة الرومانية المسيحية كديانة رسمية.

تاريخيا ايضا جاءت رسالة الاسلام، وقاد الرسول صلى الله عليه وسلم اول حكومة في المدينة بعد ان انتقلت من فكرة الدولة الى دولة الفكرة، وابتداء لابد من أن نأخذ بعين الاعتبار ملاحظة اساسية وهامة وهي التفريق بين الرسول صلى الله عليه وسلم كمبلغ عن الوحي في أمر العقيدة وما يتبعها من معاملات واخلاق وتشريعات ونصوص محكمة، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم كحاكم بصفته البشرية يحكم دولة قضاء وحربا وسلما واقتصادا وتعاملا مع الدول يشاور ويغير رأيه ويعتمد الحجة والبيان ويرسي دعائم المواطنة في المدينة بغض النظر عن الجنس والدين، تاريخياً حسمت مشكلة وشكل الدولة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء على ارض الواقع ولكنها لم تحسم في الرأي والتفكير، وكانت الغلبة لرأي قابله رأي اخر ما يزال لغاية الان مختلف من حيث اصل التصور لمفهوم الدولة.

الدولة في اللغة تعني الغلبة ويترتب عليها سلطان الغالب، في المفهوم الغربي الدولة المدنية هي التي تستقل في شؤونها وتضع قوانينها وهي الدولة العلمانية في نفس المفهوم وهي أيضا دولة المؤسسات وهنا يتدخل البعض ليؤكد على أن العلاقة بين الدولة المدنية والاسلام ليست علاقة توافق وانما علاقة تعارض ويصرون على عدم الخلط بين السياسة والدين والدولة المدنية وحدها القادرة على احتضان الاديان والافكار لانها دولة المواطنة والمساواة والفصل بين السلطات واحترام التعددية والتداول السلمي للسلطة وبالمقابل تلصق صفات الاستبداد وعدم الديموقراطية والحكم المطلق ومن الكرسي الى القبر.

الدولة الدينية في الفكر السياسي الغربي دولة ثيوقراطية تحكم بالحق الالهي، لا تراجع لديها تفويض من الاله (ما تحلونه في الارض يكون محلولا في السماء وما تربطونه في الارض يكون مربوطا في السماء) وشعار الاسلام دين ودولة كما يقول البعض هو انقلاب على الدولة المدنية ويرى بعض المفكرين المسلمين ان القران الكريم والسنة النبوية لا يتضمّنان نظاما للحكم محدد المعالم ولذلك يجتهد المسلمون فيهما ضمن ما يسمى دائرة الفراغ، والعلاقة بين الدين والسياسة ليست هي الفصل المطلق ولا التماهي المطلق، فالشأن السياسي اجتهاد بشري قابل للخطأ والصواب ويجب عدم اضفاء طابع القداسة عليه والخطاب المدني ليس على قطيعة مع المصطلحات السياسية كالتعددية وحقوق الانسان والمواطنة والتداول السلمي للسلطة، هي علاقة الفروع المتغيرة بالاصول والاركان والمقاصد.

الدين تنزيل سماوي والفكر الديني اجتهاد بشري يمكن ان يخطئ او يصيب والخلافة رؤية بشرية وليست نصا مقدسا والدولة التي نشأت في حضن الاسلام هي الدولة التاريخية وليست النموذج المقدس ولا النص الذي لا يحتمل النقاش وان صلاح حال الناس غاية اعظم من ان تحول بينها عقلية جامدة او همة قاعدة والذين يرفضون كل فكرة سبقنا اليها غيرنا مهما كانت ايجابية مخطئون في حق الامة حين يتقدم الناس ونتخلف نحن.