غياب الوسيط بين السلطة والمجتمعات



أظهر حراك الدوار الرابع في أيار الفائت ثم في الأيام الأخيرة مجموعة من الحقائق والمتغيرات المهمة في السياسة والاجتماع على الساحة الوطنية، فيتبلور على نحو أكثر وضوحا من قبل تياران سياسيان اجتماعيان. المحافظون بالمفهوم الأردني وهم مجموعة من الشخصيات السياسية التقليدية وقواعدهم الاجتماعية ممن يعول على الحكومة في الحصول على الوظائف والخدمات. ويقابلهم الليبراليون بالمفهوم الأردني وهم مجموعة من الشخصيات السياسية الصاعدة والتي تسعى إلى إطلاق القطاع الخاص وتحرير القطاع العام من التزامات اجتماعية واقتصادية كثيرة وتؤيدها قاعدة اجتماعية تتطلع إلى فرص في السوق والمؤسسات المستقلة التي تعمل خارج قواعد نظام الخدمة المدنية وتستغل ذلك للحصول على مكاسب شخصية وشللية كبيرة وخيالية.
طبعا في الأردن ليس المحافطون محافظين وليس الليبراليون ليبراليين وليس الوسطيون وسطيين وليس اليساريون يساريين وليس الإسلاميون اتجاها سياسيا أو حتى دينيا محددا. لقد ظلت هذه التسميات والتيارات على مدى العقود الماضية تعكس الانقسام الاجتماعي السائد بعناوين وأفكار مثل الإسلامية والقومية والتحرير واليسار والوسطية ثم الليبرالية والمدنية والمحافظين لكنها في واقع الحال طبقات ومجموعات مصالح لا علاقة لها بالمحتوى والأفكار والبرامج المفترض أن تعكسها الاتجاهات السياسية والاقتصادية التي تحمل الأسماء نفسها في العالم الذي ليس نحن!
في هذا الحراك الذي بدأ بالظهور منذ 2010 وتطور في اتجاهات وتشكيلات عدة، ظل على الدوام بلا قيادات منظمة ولا تعبر عنه أحزاب أو نقابات أو منظمات اجتماعية، وفي ذلك لم يكن ثمة وسيط بين السلطة السياسية والمجتمعات، وألحق ذلك ضررا كبيرا بالسياسة والاجتماع، فالعمل والتأثير وتبادل التأثير في العلاقة بين السلطات والمصالح والطبقات والمجتمعات والأسواق والأفراد لا يتقدم ولا ينضج إلا من خلال أفكار وبرامج تسعى لأجلها مؤسسات ومنظمات وتشكيلات اجتماعية، وهي في الوقت نفسه تكون وسيطا بين السلطة والمجتمعات لضمان سلمية العمل وديمومته ومتابعة آثاره ونتائجه، ولا تصلح الأعمال الجماهيرية في الشوارع والساحات مثل المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات والاعتصامات إلا لمعالجة الانسداد في الجدل والتأثير، أو الخروج على قواعد العمل والتنافس؛ فيكون الاحتجاج لأجل إعادة ترتيب المباراة والعودة بها إلى طريقها الصحيحة والتقليدية، ولم يكن الغياب والتغييب للأحزاب والنقابات لصالح الحكومة ولا المجتمعات.
في هذا الحراك السائد اليوم ومنذ ثماني سنوات على الأقل ظهرت أزمة ثقة كبرى بين الحكومة والمجتمعات والأفراد، وفي الوقت الذي لا تسلك في جهود معقولة وجادة لبناء أفكار مشتركة بينها وبين المجتمعات لا ترى المجتمعات مساحة للجدل مع الحكومة؛ ليس سوى التبعية أو القطيعة؛ الإذعان أو الرفض، ولا شك أن هذه الحالة تلحق ضررا كبيرا بالعمليات السياسية والاقتصادية، وتحولها إلى صراع بين السلطة والمجتمعات بدلا من أن تكون تنافسا سلميا وخلافات بين تيارات سياسية واقتصادية تتجادل فيما بينها حول المواقف والسياسات! بل وفي هذا الصراع بين المجموعات عطلت وتعطل مؤسسات ومصالح كبرى، وليس بعيدا من ذلك قصة الباص السريع ومصفاة البترول!
الرسالة التي تجهد النخب في الطرفين في إيصالها إلى الأفراد والمجتمعات: على قد النخب اجعل أحلامك؛ إذ تجر نفسك الى الكارثة إن بدوت أفضل منهم، لكنها نخب على قدر ضئيل من الأحلام والمعرفة وعصفت بها المرحلة الجديدة ودفعتها خارج القدرة على الإلهام، بل وفي تدفق المعرفة والمعلومات الشبكية ظهرت متعجرفة وخاوية على عروشها، ولا تملك المبادرة والعزيمة لاستيعاب التحولات الجارية ولا اكتساب ثقة الأجيال والجماهير. وكان أسوأ ما أصاب المجتمعات هو الاختباء المخجل للنقابات المهنية والتحالف المضاد الذي تمارسه مع نواب ودعاة وقادة سياسيين في إفشال المجتمعات والشباب والجماهير وتشتيتهم.