قل لي ماذا تدرس أقل لك ماذا تعمل .. نظرة في حتمية إعادة هندسة التعليم العالي
قل لي ماذا تدرس أقل لك ماذا تعمل .. نظرة في حتمية إعادة هندسة التعليم العالي
الكاتب : فيصل تايه
لا بد لنا من الوقوف عند موضوع غاية في الأهمية .. يتعلق بفوضى التعليم الجامعي واحتياجات سوق العمل .. خاصة وأن طلبتنا الأعزاء خريجي الثانوية العامة مقبلون على اختيار تخصصاتهم التعليمية الجامعية في ظل التزاحم في اختيار بعضها .. والبعيدة عن حاجاتنا والتي لا تلبي طموحاتهم نحو مستقبل واعد وآمن يضمن العيش الكريم .. فنرى في كثير من الأحيان سوءً واضحا في اختيار بعض التخصصات .. هذا ما يستدعي وجود مرجعية واضحة للأهل والطلبة لإرشادهم إلى ضرورة مراجعه الكثير من المفاهيم الخاطئة التي سادت وتسود مجتمعنا .. والتي تحتاج إلى إعلام إرشادي توعوي موجه يلقي الضوء على احتياجاتنا المستقبلية من الكوادر البشرية العاملة لتتمشى مع سوق العمل ولتجد فرصتها في إيجاد طريق المستقبل .
إن من يطلع على أجندة وسجلات وتقارير ديوان الخدمة المدنية والتي تكشف عن أعداد الخريجين المتوقع تخرجهم في السنوات القليلة القادمة وعن خياراتهم وتخصصاتهم غير المنسجمة مع حاجاتنا سيصاب بالذهول. لان الكثير منهم سينضم وبكل تأكيد إلى جيوش الخريجين الذين وما زالوا يعانون من سوء اختيارهم .. ليضافوا بذلك إلى صفوف العاطلين عن العمل . مما يعني تفاقم في البطالة الهيكلية المقننة .
ولا شك في أن حاجات و متطلبات سوق العمل تشكل جزءاً أساسياً من حاجات و متطلبات الطالب الذي يحصل على شهادته الجامعية ليكتشف أن رحلته الأصعب قد بدأت بعد تخرّجه.. فهي رحلة الحياة وتأمين لقمة العيش في ظل أسواق عمل تتميز بمنافسة شديدة لا يجد فيها ما يناسبه إلا من أعدته جامعته لفهم احتياجات ومتطلبات وآليات عمل تلك الأسواق.
ولا شك أيضاً أن حاجات و متطلبات سوق العمل تشكل جزءاً أساسياً وحاسماً من متطلبات تنمية مجتمعنا الأردني الذي يسعى باستمرار للتفاعل مع عالم يتغير وتتبدل متطلباته وحاجاته وأدواته وأساليبه وآلياته بسرعة مذهلة.
من هنا وجب علينا أن نعي دور التعليم العالي وإسهاماته في رفد أسواق العمل وفي المجتمع ككل. ليس فقط بإعداد الطالب الإعداد السليم ليكون مواطناً خادماً لوطنه بالشكل الأمثل .. بل ليكون أيضاً منافساً رابحاً في أسواق العمل .. ذلك سيكون أحد أهم مدخلات تنمية المجتمع اقتصاديا وتربوياً واجتماعيا .. بالإضافة إلى تنشيط الآليات النوعية الضرورية لأسواق العمل من أجل تمكينها من تحديث بُناها الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية وغيرها.
إن هذا الواقع يحتم علينا تغيير الأسس التقليدية التي يرتكز عليها التعليم العالي .. فيتطلب من مؤسسات التعليم العالي أن تكون أكثر مرونة وقدرة على الاستجابة للمتغيرات والحاجات المستجدة في أسواق العمل. ويمكن في هذا الصدد الإبقاء على البرامج والمناهج الثابتة .. واستحداث برامج أخرى جديدة ومرنة تلبي متطلبات تطوير مهارات الموارد البشرية وفقاً للظروف الاقتصادية والاجتماعية والمتغيرات في سوق العمل.
وبذلك يجب أن نسعى جاهدين إلى جعل التعليم العالي قادراً على التأثير الجدي في مجتمعنا عبر تمكينه من تطوير ذاته مهنيا .. وتكوين المعرفة بذلك .. وإنتاجها .. ثم نقلها ضمن قنوات مناسبة إلى خلايا المجتمع لكي تصب في خدمة إنساننا ووطننا وأمتنا.
إن إعادة هندسة التعليم العالي وضمان ترابطه العضوي مع سوق العمل هو معيار نجاح أي مشروع يهدف إلى إعادة تنظيم التعليم العالي.. فنحن لا نريد لأولادنا أن يتعلموا وينالوا الشهادات الجامعية من أجل الانضمام إلى قوافل العاطلين عن العمل .. كما سبق وتحدثت .. والتي تشكل السبب الرئيسي في تأجج بعض الآفات التي تعاني منها مجتمعاتنا كافة.
ووفق هذه الأفكار لا بد من بحث رؤى تفاعلية ثاقبة .. وذلك بتحمل الجميع لمسؤولياتهم .. فلا بد من إشراك الجميع في التخطيط لمستقبل الأجيال .. ولن نغفل عن ضرورة اعتماد تشاركيه في التخطيط بين القطاعين العام والخاص من أجل وضع الخطط الدراسية المستقبلية التي تؤمن بعداً سسيولوجياً لمجتمعنا .. فالمدخلات الأساسية التي يحتاجها سوق العمل تكمن في مخرجات التعليم العالي .. وكضرورة حتمية لا بد من شراكة حقيقية وراسخة بين هذين القطاعين .. ذلك يتطلب ضرورة وضع أولويات وآليات عمل إجرائية مع زيادة صلة المناهج الأكاديمية بسوق العمل لكي تتماشى بشكل أفضل مع متطلبات ذلك السوق .. وهنا يجب التنسيق إلى حد كبير فيما بين القطاع المهني والقطاع الخاص والعام وغرف الصناعة والتجارة أيضاً .. للعمل على أن إنتاج منتج مهيأ لتلبية الحاجات والمتطلبات الأساسية لأسواق العمل . مع التركيز على جودة النظام التعليمي والذي يقتضي التركيز ليس فقط على المدخلات بل والمخرجات أيضاً .. فتكون هناك حدود دنيا ومهارات معينة يجب أن يتمتع بها الخريجون .
إن ضرورة بناء الكوادر البشرية بما يتناسب مع متطلبات سوق العمل .. وضرورة ربط التخطيط التعليمي بالتخطيط الاقتصادي في إطار خطة تنمية شاملة .. واستخدام التدريب وإعادة التأهيل بالتعاون مع الأطراف ذات العلاقة وخاصة القطاع الخاص .. ودعم التعليم الجامعي .. وربط التخصصات بالاحتياجات من القوى العاملة على المدى المتوسط والطويل .. وإنشاء قاعدة بيانات مربوطة بشبكة معلومات تستفيد منها الأجهزة المناط بها وضع سياسات الاستخدام وتخطيط القوى العاملة وتخطيط التعليم .. مع استمرار تحديث المناهج والطرق التدريسية لمواكبة التطور السريع في البيئة الداخلية والخارجية .. وإنشاء مراكز تدريب مهني ضمن الجامعة يساهم فيها القطاع الخاص بخبرته العملية وأساتذة الجامعة يتدرب فيها الطلاب الذين على وشك التخرج لينخرطوا مباشرة في سوق العمل .. سيضمن معالجة جذرية للخروج حتما من هذا الكابوس مع اعتماد استمرارية سياسة التوجيه المهني عبر القنوات الإرشادية المعروفة .
انه لمن الضروري بحث هذا الموضوع بكل همة ومسؤولية .. ومتابعة كافة الاقتراحات لذوي العلاقة لعل أبرزها العمل على التوسع في إنشاء الكليات التطبيقية وضرورة ربط التخطيط التعليمي بالتخطيط الاقتصادي في إطار خطة التنمية لتفادي تخريج قوى عاملة غير مرغوب فيها .. وبذلك نرقى إلى الحاجات والضرورات الملحة.
و كذلك لا بد من إيجاد برامج تعنى بتوجيه شبابنا نحو التعليم والعمل المهني كونهما من عناصر التنمية الاقتصادية .. ومجالاته مربحة للعاملين فيه إذا أجادوا المهن المختلفة وأقدموا عليها طواعية .. فالعمل في المهن الحرفية لها المردود المادي الذي يمكن العاملين فيها من مواجهة أعباء الحياة .. ذلك يتطلب منا العمل على تغيير بعض المفاهيم المترسخة في مجتمعنا بل إن المجتمع الأردني بحاجة إلى ثقافة تضرب بقوة في عمقه .. تلك الثقافة الذي تقوم بعض جوانبها على كثير من القيود والحواجز .. ولعل توارث القيم والعادات في المجتمع تعمل على تأصيلها والإبقاء عليها وتقويتها للإبقاء على الحياة كما هي أمام الكثير من التغيرات الحضارية والاجتماعية.. بل إن اختيار المهنة ليس ما يتعارض مع عادات المجتمع وتقاليده التي لا تقوم على أساس علمي أو شرعي .. بل أصبح هذا المفهوم يقوم على خرافات وتقاليد بالية عفى عليها الزمن .. ولم تعد تتماشى مع متطلبات العصر الحاضر.. بل يجب أن ننظر إلى هذا الموضوع بجديدة .. ونبتعد عن المفاهيم الخاطئة وننمي ثقافة مغايرة لثقافة العيب .. التي نتذرع بها ويتمسك بها كثير من أفراد مجتمعنا .. فهذه المهن لا تتعارض بالمطلق مع القيم أو مصلحة الوطن العامة.. وفي النهاية هو ما يتعارض مع النظام الذي تقوم عليه سياسة الوطن باعتبارنا مواطنين فيه وننتمي إليه.
أتمنى أن تكون هذه الرؤى نبراسا لطلبتنا الأعزاء الذين ما زالوا مصريين على انتهاج تقليد أعمى في اختيار تخصصاتهم .. سائلاً المولى عز وجل أن يعينهم على تحديد خيارهم الصحيح والذي سيضمن مستقبل مشرق واعد يضمن لهم سبل العيش الكريم .
مع تحياتي
الكاتب : فيصل تايه
البريد الالكتروني : Fsltyh@yahoo.com