الرزاز ومرارة الاعتراف بالمسؤولية


جاء التصريح متأخرا بأن الحكومة تتحمل مسؤولية اخلاقية عن حادثة البحر الميت على لسان رئيس الوزراء عمر الرزاز؛ تصريح مهم يكشف حجم الخلل ممزوجا بمرارة الاعتراف في ذات الوقت؛ خلل متراكم اتخذ شكل المتوالية الهندسية بدءا بالحادثة واستباقها بإجراءات تعكس النهج الاصلاحي للحكومة مرورا بالتعامل مع الحادثة ثم تداعياته التي افضت الى لجان تكاثرت كالفطر بلا معنى، عاكسة ارتباك الحكومة وفقدانها للرؤية.
ومرارة الاعتراف باعتبارها نقطة تسجل لوسائل التواصل الاجتماعي الضاغطة والمستهدفة بدورها بقانون الجرائم الالكترونية؛ فعيوبها لا تلغي نفعها وحسناتها، كما تسجل لوسائل الاعلام وللمجتمع الاردني الذي يفتقد الى التنظيم والتأطير المجتمعي والمدني الحديث الفعال؛ ما جعل من شبكات التواصل الاجتماعي خط الدفاع الاخير والوحيد، دافعا الحكومة للاعتراف بخجل بالمسؤولية الاخلاقية.
المسؤولية الاخلاقية اعتراف اولي يعني فيما يعنيه ضرورة استقالة الوزراء المعنيين بالحادثة، ويعني مراجعة البرنامج الحكومي الذي لم تلتزم به الحكومة إلا في شقه المتعلق بفرض وجبة ضريبية جديدة على المواطنين؛ فأولويات أي وزير بحسب البرنامج المعلن تقتضي انصباب جهده على تحسين اداء وزارته والبحث عن الثغرات والعيوب ومعالجتها والاشارة اليها بشجاعة دون وجل، وغياب ذلك يحمل دلالة واحدة انه غير معني بالاصلاح وتنفيذ البرنامج الحكومي بقدر ما هو معني بالدفاع عن المنصب الذي حازه بعد طول انتظار في صفوف النخبة
المدورة.
حادثة البحر الميت كشفت عن متوالية هندسية في سلسلة متتابعة، بدءا بالمدرسة المنكوبة، مرورا بوزارة التربية ووزارة السياحة والاشغال العامة والنقل وسلطة وادي الاردن ووزارة المياه، واخيرا وليس آخراً وزارة الصحة فكلما مرت ساعة على الحادثة اكتشفنا جديدا؛ متوالية لا تعرف التوقف تتوسع شيئا فشيئا لتكشف عن عيوب كبيرة وخطيرة يدفع ثمنها المواطنون يوميا، ولكنها مجهرية كشفت عنها حادثة البحر الميت لضخامتها.
حادثة كشفت عيبا ولكنها رفعت الغطاء عن متوالية متسلسلة من العيوب المتراكمة، حالها كحال الطرق المتهالكة التي يسقط فيها يوميا العشرات من الضحايا ومثالها الساطع طريق المفرق- اربد؛ فعدد الوفيات والضحايا منذ العام 1994 وهو عام التحاقي بجامعة آل البيت، وتعرفي على الطريق من خلال حادثة تعرض لها زملاء في الجامعة، بلغ عشرات بل مئات الضحايا لهذا الطريق توالت بعد ذلك بلا انقطاع، لم تشكل لجان ولم يعاد النظر في اهلية الطريق الذي يخدم عددا كبيرا من المصانع والمزارع والجامعات والقرى، وله العديد من الطرق الفرعية المرعبة، ويفتقد للمنافذ الآمنة والجزر الوسطية المعتبرة، لم يتغير عليه شيء، والسير فيه مغامرة ومقامرة مرعبة.
حال لا يختلف عن الاودية والسيول الجارفة، فالحوادث اليومية مجهرية يتم تجاهلها الى ان تصبح كوارث جماعية يلتفت اليها؛ لتغيب عن المشهد وتغيب، المستشفيات والقطاع الصحي له نموذجه ايضا؛ فالمواعيد تعطى لأربعة اشهر تؤثر في حياة المواطنين؛ إذ لا يستطيع المريض ان ينتظر، ليتجه الى القطاع الخاص، منفقاً ما في جعبته ان كان فيها شيء ليعود ادراجه باحثا عن واسطة او طريقة لاستدراك وضعه الخطير، وإلا تحول الى ضحية لهذه المتوالية المرعبة، واناس كثر يفتقدون لهذه الامكانات والمهارات، ما يجعلهم ضحايا افتراضيين لهذا المشهد اليومي المجهري المتكرر.
القضية ليست قضية سيول فقط بل متوالية هندسية ما إن تتكشف خيوطها حتى تغيب في تفاصيل مشهد والانشغالات اليومية للمجتمع الذي يعكف عن الانخراط والمتابعة والرقابة، اذ لم يشكل اهالي الضحايا على مدى سنوات لوبي ضاغطا لمعالجة اشكالية طريق المفرق- اربد ولم يشكل المجتمع لوبيات ضاغطة لمعالجة الكثير من الاشكالات لضعف قدراته وانعدامها نظريا وعمليا، وسيادة منطق الفزعة المجتمعية والعصبيات البعدية عن القوننة والتأطير الحديث.
الاصلاح والمسؤولية ليست شعارات عابرة بل عمل وبرامج واولويات، واولية ومسؤولية غائبة ومفقودة؛ فمهمة الحكومة التعامل مع المتوالية الهندسية من الازمات والاشكالات والعيوب التي يعجز المجتمع المدني والافراد عن التعاطي معها بفاعلية؛ ما يجعل منها مسؤولية سياسية برامجية بحتة في الجوهر تحاسب عليها الحكومات سياسيا واخلاقيا وقضائيا اذا لزم الامر