الإمارات وقطر ومأزق التركيبة السكانية
اخبار البلد _ في يونيو عام 2006 تحدثنا في هذا الموقع عن محاذير التركيبة السكانية في الأمارات تحت العنوان " هل لدينا الأرادة السياسية لتصحيح الأختلال السكاني قبل فوات الأوان ؟ " ، وقد سبق وان طرح هذا الباحث المشكلة نفسها عام 1993 في بحث تم نشره في مجلة التعاون الصادرة عن الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي ، ونحن نذكر بهذه المقالات ليس لتحقيق سبق على غيرنا لأن القضية طرحها
كثير من أبناء المنطقة ولكننا نوثق لمن يدعي بأن هذا الموضوع لم يعطى نصيبه من اهتمام الباحثين [1]. وها نحن نعيد فتح الملف مرة أخرى بعد ان تفاقت المشكلة السكانية في هذه الدولة ودولة أخرى عزيزة على نفوسنا وهي دولة قطر واصبح المواطنون فيهما احد الأقليات في أوطانهم خاصة وان " محطة الجزيرة" التي نقدر دورها في أكثر من ميدان لازالت تحلق في فضاءات بعيدة عن منطقة الخليج ولايبدو ان من اولوياتها الحديث عن هموم اهل الخليج سواء كانت هذه الهموم سياسية تتعلق بالحريات والأعتقالات ، أو معيشية أو سكانية أو غيرها الا ما ندر. وحديثنا عن الأمارات وقطر لايعني ان بقية دول المجلس لاتعاني من اختلال سكاني ، ولكننا اخترنا الأمارات وقطر لأنهما أكثر دول المجلس اختلالا سكانيا ، وهدفنا من التوقف عند هذه المشكلةهو التأكيد على أن ألأختلال السكاني وما يحمله من مخاطر لأبناء المنطقة هو في تفاقم يوما بعد يوم في هاتين الدولتين وكذلك التأكيد على أن السياسات الحكومية التي لاتخضع لرقابة مجتمعية خلال مجالس منتخبة تكون عادة تعبيرا عن رؤى ومصالح فئة من المجتمع وعادة ما تكون على حساب غالبية أبناء المجتمع واجياله القادمة . وقد راينا ان نبدأ حديثنا بعرض بعض الأرقام التي توفرت لدينا من مصادر مختلفة وهي وان كانت قليلة الا انها كافية لرسم حجم هذا الأختلال ، وان كنا نعتقد أن الأرقام الفعلية هي أسواء حال من الأرقام التي اعتمدنا عليها تجنبا لأية مبالغة في الصورة التي ننقلها للقاريء . وبعد كشف حجم الأختلال من خلال هذه الأرقام سنحاول ان نتحدث باختصار عن كل من الأسباب والتكاليف ، ثم نختم حديثنا ببعض وسائل التعامل مع هذا المأزق ، ولاشك ان هذا الأختلال السكاني هو أقرب الى المرض العضال الذي يزداد فتكه بالجسد ويصعب علاجه كلما تأخر هذا العلاج .
طبيعة وحجم المشكلة
شهدت الولايات المتحدة الأمريكية في النصف الأول من عام 2006 حوارساخن وشفاف عبر وسائل الأعلام حول قضية " العمالة غير الشرعية" والتي كانت تقدر حينئذ بحوالي 11 الى 12 مليون أو ما يقارب 4 % من سكان الولايات المتحدة ، وقد تركز الحوار على اخطار هذه العمالة على هوية المجتمع الأمريكي وامنه وعلى مستوى معيشة الفرد الأمريكي . وفي كتاب كتبه قبل موته ، يحذر صامويل هانتغتون – صاحب مقولة صراع الحضارات – من الخطر الذي تمثله نسبة ال 10 % من المهاجرين من المكسيك وبقية دول امريكا اللاتينية على الثقافة الأمريكية الأنجلوساكسونية التي تتمثل في رأي هانتيغتون في اللغة الأنجليزية والرجل الأبيض والمذهب البروتستانتي . وفي اغسطس الماضي صدر كتاب في المانيا بعنوان " المانيا تفني نفسها" والمؤلف كان وزير مالية برلين ، واحد اعضاء مجلس ادارة المصرف المركزي الألماني وملخص ما يذكره هذا المؤلف هو ان على المانيا ان تضيق الخناق على الجالتين العربية والتركية في المانيا بكل الطرق المالية وغير المالية لأن هاتين الجاليتين ليست لديهما الرغبة أو القدرة على الأنصهار في المنظومة القيمية الألمانية ، أي التشبع بالثقافة الغربية [2]. وقد اثار الكتاب كثير من النقاش بين مؤيد ومعارض لأن المانيا مجتمع يتجه الى الشيخوخة ، وبالتالي فهو في حاجة متزايدة الى العمالة المهاجرة ولكن هذه العمالة لها اشكالياتها الثقافية . وعلى الرغم من أن عدد المسلمين في المانيا لايتجاوز اربعة ملايين او اقل من 4 % من اجمالي السكان الا انه عندما اجري استفتاء بعد شهرين من صدور الكتاب المذكور سابقا تبين ان 36 % من الألمان يشعرون بان الأجانب بداوا يسيطرون على المانيا ، بل والأخطر من ذلك ان 58 % من الألمان بحسب هذا ألأستبيان اكدوا ان هناك ضرورة لتقييد الممارسات الدينية للمسلمين [3]. الأمثلة السابقة تبين ان الدول التي تفاوتت نسبة العمالة المهاجرة لديها بين 4 % و10 % رأت في هذه النسب خطرا على هويتها وعلى الرفاه الأقتصادي لمواطنيها ، فماذا ينبقي ان يكون موقفنا نحن أبناء الخليج والجزيرة العربية عندما نتأمل بعض الحقائق المرة حول دور أبناء الأمارات وقطر في أوطانهم . فبحسب دراسة حديثة اعدتها كلية الأقتصاد بجامعة لندن حول العمالة الوافدة في دول مجلس التعاون الخليجي فان العمالة الوافدة كانت تشكل عام 2008 حوالي 94.3 % في قطر و85.0 % في الأمارات من اجمالي القوى العاملة ، بينما كانت نسبة الوافدين الى اجمالي السكان للعام نفسه تعادل 87% في قطر و81 % في الأمارات [4] . هذا في ما يتعلق بحجم السكان والقوى العاملة المواطنة ، اما نسبة مشاركة هذه الأقلية المواطنة في النشاط الأقتصادي فهي منخفضة كذلك ، فبحسب ارقام عام 2008 ، فان نسبة مشاركة المواطنين ، ذكور واناث ، كانت لاتزيد في قطر على 49.3 ، بينما كانت هذه النسبة للوافدين تصل الى 92.1 ، اما في الأمارات فان نسبة مشاركة المواطنين في النشاط الأقتصادي هي 45.6 بينما نسبة مشاركة الوافدين تزيد على 79.2[5]. اضافة الى محدودية حجم العمالة المواطنة وانخفاض معدلات مشاركتها في النشاط الأقتصادي ، تعاني القوى العاملة المواطنة من تكدس في القطاع الحكومي وابتعاد شبه كامل عن القطاع الخاص اما بسبب عدم توفر المهارات اللازمة بسبب اخفاق النظام التعليمي ، او بسبب ارتفاع اجور القطاع العام مقارنة بالقطاع الخاص ، او بسبب قلة ساعات العمل فيه مقارنة بالقطاع الخاص ، او بتفوقه في ما يتعلق بمكافآت التقاعد والضمانات ، ذلك اضافة الى افتقار القطاع العام الى معايير ألأداء والأنتاجية كما هو حال القطاع الخاص . وتشير بعض البيانات الى انه في عام 2008 كان القطاع العام القطري يستقطب حوالي 88% من اجمالي العماله المواطنة [6]. ولاتوجد وللأسف اية بيانات حول هذا الموضوع عن الأمارات التي يبدو ان الجهات المختصة فيها قد قررت عدم اصدار بيانات سكانية مفصلة منذ احصاء عام 2005 ، وكأنها غير راغبة في كشف الحقائق المرة التي كلما استمر التستر عليها كلما استفحلت اخطارها وياليت قومي يعلمون . وقد تكون ارقام عام 2003 التي تشير الى ان العمالة المواطنة في القطاع الخاص كانت حوالي 1% في الأمارات و3 % في قطر تاكيد آخر على تركز العمالة المواطنة في القطاع الحكومي [7]. اضافة الى الأشكاليات السابقة التي يواجهها المواطنون في كل من قطر والأمارات ، هناك كذلك مشكلة البطالة المتزايدة خاصة بين خريجي الجامعات . ففي عام 2008 كانت معدلات البطالة للذكور والأناث معا تصل في المتوسط الى 3.2 % في قطرولكننا لو تفحصنا هذه النسبة لوجدنا انها تعبر عن نسبة بطالة تصل الى 5.9 % بين الأناث و1.7 بطالة بين الذكور . اما في الأمارات فان معدل البطالة للذكور والأناث معا يعادل 13.8 % للعام نفسه ، ولاتوجد بيانات حديثة ومنشورة لتقسيم هذه النسبة بين الذكور وألأناث [8].
وفي ما يتعلق بالتوزيع القطاعي للعمالة الكلية فان البيانات المتوفرة تشير الى ان قطاع التشييد كان يمثل عام 2009 حوالي 44 % من اجمالي الوظائف في قطر وكانت العمالة الوافدة تمثل 100 % من العاملين في هذا القطاع . أما الأمارات فان قطاع تجارة الجملة والمفرق كان يتصدر القطاعات من حيث التوظيف يتبعه قطاع الخدمات المنزلية وتمثل العمالة الوافدة حوالي 95 % من وظائف هذين القطاعين [9]. اما في ما يتعلق بالمواطنين القطريين فانهم يمثلون حوالي 66% من العمالة في القطاع الحكومي بينما يتفاوت تواجدهم في اغلبية القطاعات الأخرى بين صفر و2% فقط ، وكذلك حال العمالة المواطنة في الأمارات حيث انها تمثل 55 % من القوى العاملة في القطاع الحكومي ويتفاوت تواجدها في بقية القطاعات ما بين 4 % و27 % [10]. ولاشك ان هذه النسب المعدومة أو المنخفضة للمواطنين الأماراتيين والقطريين في غالبية القطاعات هو دليل على فشل عملية توطين الوظائف في هاتين الدولتين . وقد طرأ منذ بداية التسعينيات تحولا في الهوية الثقافية للعمالة المهاجرة الى دول المنطقة حيث تراجع نصيب العرب لحساب الجنسيات الأخرى خاصة ألاسيوية باشكالها . فبعد احتلال العراق للكويت تم طرد حوالي مليوني عربي واسرهم من المنطقة [11]. وبعد احتلال العراق تم تسريح مالا يقل عن مليون ونصف عربي من العراقيين واليمنيين [12]. واخيرا تتصف العمالة الأجنبية في المنطقة كذلك بارتفاع نسبة العمالة غير الشرعية بينها مقارنة بالعمالة الأجنبية في بقية مناطق العالم . فبحسب بعض البيانات فان العمالة غير الشرعية كانت تمثل حوالي 37% و41% من اجمالي القوى العاملة في الأمارات وقطر على التوالي . وفي نفس الفترة كانت العمالة الأجنبية غير الشرعية في دول المجلس تمثل في المتوسط حوالي 10 % من اجمالي السكان و15 % من اجمالي القوى العاملة علما انه في دول المجموعة الأوروبية ينظر الى زيادة نسبة المهاجرين غير الشرعيين على 2% من السكان بمثابة الأزمة التي لابد من علاجها. هذه النسب المرتفعة للعمالة غير الشرعية في دول المنطقة سببها التساهل أو التلاعب في قوانين استقطاب العمالة أو في حماية حدود هذه الدول أو في مزيج منها وهذا في اعتقادنا هوبسبب غياب الرقابة المجتمعية على سياسات حكومات هذه الدول [13].
هذه اذن هي صورة الأختلال السكاني في كل من الأمارات وقطركما تشير اليها احدث الأرقام . مواطنون يشكلون اقلية في عدد السكان ، واقلية في القوى العاملة ، مشاركتهم في النشاط الأقتصادي منخفضة ، وتعاني هذه النسبة الضيلة من القوى العاملة المواطنة من تزايد معدلات البطالة بين افرادها ، وتتركز غالبية هذه القوى العاملة المواطنة في القطاع الحكومي ، كما وان الصبغة الغالبه للعمالة الأجنبية هي غير عربية وترتفع فيها نسبة العمالة غير الشرعية .
من المسؤول ؟
ان تأمل الخصائص السكانية سابقة الذكر في كل من الأمارات وقطر جدير بان يدفعنا للبحث عن الأسباب التي ادت الى هذا الأختلال السكاني . فعندما نرى ان المسيرة التنموية التي استمرت لأكثر من ثلاثين عاما قد انتهت اليوم بجعل المواطنين اقلية مهمشه لاتزيد على 20 % من السكان و10 % من القوى العاملة فاننا ولاشك امام نموذج تنموي فاشل الا اذا كان الهدف من التنمية في هذه الدول هو استبدال أبناء هذه الأرض بمواطنين من شعوب آخرى وهذا طبعا لايمكن تصور ه أو القبول به . وهذا الفشل التنموي هو في اعتقادنا نتيجة للأعتقاد الذي ساد لدى حكومات المنطقة منذ بداية الطفرة النفطية في بداية السبعينيات بان وفرة ألأيرادات النفطية هي وحدها كافية للتغلب على كل المعوقات التنموية الأخرى ، بينما كان كثير من المفكرين والباحثين الخليجيين والعرب يؤكدون على ان تحسين فرص التنمية في دول المنطقة يتطلب حصول تكامل اقتصادي بينها حتى يزداد حجم السوق ويتم تجنب الهدر في الموارد البشرية نتيجة للأزدواجية في المشروعات ويتم تجنب الأعتماد المفرط على العمالة الأجنبية . ولاشك ان غياب الرقابة المجتمعية على سياسات هذه الحكومات وما تعنيه هذه الرقابة من ترشيد للقرارات وتصحيح للمسار جعل حكومات هذه الدول تستمرالى يومنا هذا في سياساتها القطرية ، وهانحن اليوم ، وبعد اكثر من ثلاثين سنة من جهود التنمية نرى أن المواطنين الذين من المفترض أن يكونون المستفيدين من هذه التنمية قد اصبحوا أقلية في أوطانهم كما وان التنمية المنشودة لم تتحقق كما بينا في مرجع آخر[14]. وهنا نذكر القراء الكرام أننا عندما نتحدث عن التنمية المنشودة فاننا نقصد وجود انسان خليجي يستطيع أن ينتج سلعة أو خدمة يصدرها الى العالم الخارجي ليحصل مقابلها على عملة اجنبية يشتري بها حاجاته من بقية دول العالم . بمعنى آخران مستوى المعيشة الذي يتمتع به ابناء الخليج اليوم هو ليس نتيجة لعمل منتج يمكن أن يؤمن استمرار هذا المستوى المعيشي ، وانما هو نتيجة استخراج ثروة نفطية من باطن الأرض وتحويلها الى دولارات ومن ثم استخدامها في توفير الحاجات الأستهلاكية التي نحتاجها في حياتنا اليومية ، ولكن هذه الثروة النفطية التي هي سبب لأستهلاكنا الحالي هي ناضبة أي انها ستنهي ، وبالتالي فاذا اردنا ان نبقي على مستوى معيشتنا الحالي أو نرفعه فلابد من استخدام هذه الثروة الناضبة لأيجاد ثروة متجددة كبقية الدول المتقدمة ، وهذا لايتم الا بايجاد انسان ينتج سلع وخدمات غير النفط لتحل محل النفط ، وهذا المفهوم التنموي لم نستطع تحقيقه حتى الآن ، فكل البنية ألأساسية كالتعليم والصحة والطرق والمواصلات والأتصالات ، هي كما يدل عليها اسمها ، بنية اساسية ، اي انها تمثل القاعدة التي لابد ان يقوم عليها بناء ، والبناء هنا يتمثل في المنتجات المتنوعة والمتعددة التي تحل محل النفط كمصدر للدخل ، واذا لم تتحقق هذه الثمرة من هذه البنية فانها تكون اقرب الى البنية الأستهلاكية ، أي ان المجتمع يصبح مثل الشخص الذي يملك ثروة يقوم باستهلاكها من غير استخدام جزء منها لزيادة دخله ، وبعد انتهاء هذه الثروة يهبط مستوى معيشته ويتحول من الغنى الى الفقر ، وهكذا تزول النعم اذا لم تحفظ . واذا اراد القاري الكريم ان يتأمل بعض المؤشرات ليتأكد من صحة مقولتنا هذه فما عليه الا ان ينظر الى ايرادات هذه الدول ، وصادراتها ، وناتجها ليتبين له أن النفط لازال يهيمن على هذه المؤشرات ، مما يؤكد اننا لازلنا بعيدين عن تطوير بدائل للنفط ، وعملية تطوير البدائل هذه ، هي عملية تستغرق عشرات السنين ، ولازلنا نحن وبعد أكثر من ثلاثين سنة نرواح في بداية الطريق ، وقد نظل نراوح مكاننا ، اذا لم ندرك هذا الفشل التنموي لهذه الحكومات . ولكن هذا الأخفاق التنموي وما نتج عنه من اختلال سكاني في هاتين الدولتين كانت له اسباب اخرى ادت الى تفاقمه واستمراره وهي اسباب يمكن تصنيفها تحت عنوان رئيسي وهو غياب المشاركة السياسية التي تجعل كل ابناء الوطن يشاركون من خلال مؤسسات منتخبة في صناعة القرار وترشيده وتغييره ، وغياب هذه المشاركة جعل الحكومات تتصرف بمعزل عن طموحات وتطلعات شعوب المنطقة من غير تبعات ، فالنظام التعليمي ظل عاجزا عن توفير الطاقات البشرية المواطنة المواكبة لمتطلبات التنمية وحتى اولئك الذين تعلموا وارادوا المشاركة في بناء الوطن ظل النظام السياسي عقبة في طريقهم الا اذا كان لديهم الأستعداد للتفريط في مبادئهم او السكوت امام الأخطاء القاتلة ، أي تعلم ولاتتكلم ، وبرامج التدريب ظلت شكلية لاتخضع لأي تقييم لمعرفة درجة نجاحها أو فشلها ، والتوطين اصبح شعارا خالي من المضمون ، وهكذا استمرت نسبة المواطنين في القوى العاملة في التراجع ، ولم يكن حال المؤسسات الصحية ومؤسسات الضمان الأجتماعي افضل حالا . وهكذا فبدل ان تفرز التنمية طبقة وسطى تمثل غالبية السكان وتكون العمود الفقري للأقتصاد والأنتاج ، اذا بهذه الدول تتجه الى افراز طبقة صغيره من الأغنياء الذين تمركزوا في دوائر القرار والثروة ، بينما بدأت بقية شرائح المجتمع تواجه تراجع ملموس في مستوى معيشتها يدفعها تدريجيا الى الفقر ويبدوا هذا الأتجاه واضحا في مقارنة فجوة الدخل في كل امارة وبين الأمارات ، ولاشك ان هذا الأتجاه اذا لم يتم تداركه بتفعيل دور المواطن من خلال مزيد من التعليم والتدريب والتأهيل والتوطين ، ومن خلال الأرتقاء بمستوى الخدمات الصحية ، ومن خلال ايجاد مؤسسات تقدم مكافآت للبطالة ، ومن خلال تحسين مستوى التأمينات الأجتماعية ، فان انعكاساتها ستكون سلبية على كل من الأستقرار والأزدهار في السنوات القادمة. هذه بعض الأمثلة على ما يحدث لقرارات وثروات المجتمعات التي لاتخضع فيها الحكومات لمجالس منتخبة تمارس دورا رقابيا على اداء الحكومات وقد عالجنا هذه الموضوعات في مصدر آخر يمكن العودة اليه [15].
ما هي التكاليف ؟
ان الأختلال السكاني الذي نتج عن النموذج التنموي المشوة في دولتي الأمارات وقطر له آثار سلبية بعضها تحقق والآخر في طريقه الى التحقق ويمكننا تلخيص هذه الآثار مجتمعة في اربعة آثار رئيسية . فاول هذه الاثار ثقافي حيث ان الثقافة العربية ألأسلامية اصبحت غريبة في هذه الدول ابتداء من القطاع المنزلي حيث السائق الهندي والمزارع الباكستاني والخادمة الفلبينية مما حرم ابناء هذه المنطقة من التحدث بلغتهم العربية والتشبع بقيمهم الأسلامية في اول سنوات اعمارهم ، واذا تحدثوا بلغتهم استخدموا لغة مهجنه حتى يتواصلوا مع من حولهم . واذا خرج المواطن الى الشارع والأسواق والمؤسسات لم يختلف واقعه الثقافي عن دائرة المنزل فهذه المؤسسات تخاطب غالبية السكان وهم غير عرب ، فتجد الواجهات تحمل اسماء غير عربية ودور السينما تخاطب اغلب الأقليات ، وكذلك الحال في المطاعم والمدارس الخاصة التي تستمر في تعميق التنوع الثقافي ، وهي تدريجيا تقصي ثقافة اهل الدار وتحرم أبناء هذه الدول من الأستمتاع بما تحمله ثقافتهم من مخزون حضاري يربط ماضيهم بمستقبلهم . أما الأثر الثاني لهذا الأختلال السكاني فهو اقتصادي ويتمثل في هروب كثير من ثروات هذه الدول الى الدول المصدرة للعمالة الأجنبية لأن ما تنفقه هذه العمالة محليا من اجورها يمثل نسبة ضيئلة جدا مقارنة بما ترسله الى اوطانها وهذا حق لهم ، ولكنه يؤثر سلبا على عجلة الأقتصاد في الدول الخليجية لأن الطلب على السلع والخدمات المحلية وما يؤدي اليه من دوران في عجلة الأقتصاد يكون منخفضا في ظل هذه التركيبة السكانية وهذا يعني بقاء حجم السوق المحلي محدودا ويمثل بذلك قيدا على تنمية هذه الدول . والأثر الثالث هو تفشي ظاهرة التجارة بالتاشيرات من قبل القيادات المتنفذة في هذه الدول واعتبار ذلك مصدر دخل مع تجاهل آثار هذا السلوك على هوية هذه المجتمعات أو اقتصادها أو امنها خاصة في ظل غياب الرقابة المجتمعية على عملية صنع القرار . واخيرا وليس بآخر هناك ألأثر الأخطر لهذه التركيبة السكانية وهو الأثر الأمني والسياسي ، فهذا التواجد الكثيف للعمالة الأجنبية الرخيصة يجعل العمالة المواطنة تعزف عن المشاركة في النشاط الأقتصادي والمنتج وتتجه الى المضاربات في اسواق المال ، كما وانه يعطي حكومات المنطقة مبررا لعدم احداث اصلاحات سياسية تشارك بموجبها شعوب المنطقة في القرارعلما ان السياسات الخاطئة للحكومات وليست الشعوب هي المسؤولة عن هذا الأختلال السكاني . كما وان الأجيال الثانية من هذه العمالة ستبدا في السنوات القادمة بالمطالبه بكثير من الحقوق مستخدمة القوانين الدولية ، وعندما تبدا هذه المطالبات سنجد ان المنطقة ستبدا في مواجهة كثير من التوترات مع الدول المصدرة لهذه العمالة والتي ستحاول ان تقف وراء رعاياها للحصول على اكبر المكاسب من حكومات المنطقة مقابل الأقليات الأخرى [16].
ما هو المخرج ؟
ان علاج التركيبة السكانية في كل من الأمارات وقطر له عدة مستويات اولها داخلي يتعلق بتصحيح آلية صنع القرار في هاتين الدولتين لأن مشكلة التركيبة السكانية هي كما ذكرنا نتيجة لفشل سياسات هذه الحكومات لأنها سياسات تحكمها المصالح الأقتصادية للقلة بينما تدفع ثمنها شعوب المنطقة والأجيال القادمة . لذلك فان البداية في علاج هذه المشكلة تكون بوجود رقابة شعبية على الحكومات في هذه الدول وذلك لايتحقق الا بمجالس تشريعة منتخبة تكون لها سلطات رقابية وتشريعية وتستطيع ان تتابع سياسات الحكومات أولا بأول وتوجهها لما فيه خدمة لكافة شرائح المجتمعات الخليجية ومن غير هذه البيئة المؤسسية لايمكن أن يكون هناك علاج ناجع لهذه المشكلة أو غيرها من مشاكل الأمن والتنمية كما يشهد بذلك تاريخ هذه الحكومات ، باختصار الذي نؤكده على ضوء تجارب دول المنطقة هو انه مالم توضع الثروة والقرار في اطار مؤسسي يمثل أرادة شعوب المنطقة فاننا لانتوقع الا تكرار لمسيرة التنمية السابقة الفاشلة . ففي ظل البيئة المؤسسية التي تتصف بالمساءلة والشفافية يمكن الأخذ بعدة سياسات منها زيادة كلفة العمالة الوافدة ، وفرض حصص تصاعدية لمشاركة المواطنين في القطاعات المختلفة ، وتحديد سقوف لتواجد العمالة الوافدة في مؤسسات القطاع الخاص ، وتقليل المشروعات ذات الكثافة العمالية ، واعطاء الأولوية في ارساء المشروعات الحكومية للمؤسسات الأكثر توطين ، وتكثيف برامج التدريب وتثقيف المواطنين حول خطورة الأعتماد على العمالة الأجنبية ، وغيرها من السياسات التي جرب بعضها سابقا ولكنها لم تنجح بسبب غياب الأرادة المجتمعية في عملية صنع القرار . وبعد ترتيب البيت من الداخل أو بموازاة هذه الخطوة تأتي الخطوة التالية وهي اعادة النظر في المسار التنموي الحالي الذي كان سببا في هذا الأختلال السكاني وذلك باقامة وحدة خليجية تكون فيها هذه الدول قادرة على تنفيذ مشروعاتها التنموية في ظل سوق خليجية أكبر من سوق كل دولة منفردة ، وبذلك سيحدث توفير في كثير من الهدر المادي والبشري الحالي وستتراجع ظاهرة الأزدواجية في المشروعات ، كما واننا سنشاهد ظهور طبقة وسطى تمثل الجزء الأكبر من سكان المنطقة وتمثل العمود الفقري للتنمية الفعلية ، بدل المسار الذي تأخذنا اليه الحكومات الحالية والذي يتصف بفئة قليلة ومتنفذة من السكان تستحوذ على نسبة متزايدة من الثروة تتقاسمها مع الشركات العالمية لتنفذ مشروعات وهمية لاعلاقة لها بالتنمية أو توظيف المواطنين ، بينما غالبية السكان يتجهون الى التهميش ، وبعد ذلك وخلال سنوات قليلة الى الفقر . وكما ان فرص التنمية في ظل هذا الكيان ستكون أكبر فكذلك فرص الأمن ، لأن وجود هذا الكيان الجديد سياسيا واقتصاديا سيواكبه وجود امني متمثل في تفعيل درع الجزيرة الذي لازال كيان هش كما تشير كثير من الدراسات بسبب الخلافات السياسية بين حكومات لاتخضع لرقابة شعبية ولاترغب في عمل جماعي جاد يقلل من سطوتها على القرار والثروة مهما ادعت عكس ذلك [17]. لذلك عندما تكون كل حكومة تمثل شعبها فعلا فاننا سنجد انها ستتفق مع بقية الحكومات على تطوير درع الجزيرة وتفعيله كقوة ردع فعلية في المنطقة . وعلى الرغم من أن العمل عل المستوى الخليجي في ظل حكومات تعبر عن مصالح شعوب المنطقة لا عن مصالح فئة محدودة من السكان سيضع هذه الدول على مسار أمني وتنموي صحيح الا انه لن يكون كافيا بسبب القيود السكانية وقيود الموارد كالزراعة وغيرها والتي تجعل هذه الدول في حاجة الى العمل على مستوى ثالث اي في الدائرة العربية وبعض الدول الأسلامية الصديقة كتركيا وذلك باقامة مشروعات زراعية وصناعية وتجارية معها لتنويع الدخل وتوفير الحاجات التي لايمكن توفيرها في الدائرة الخليجية كالغذاء والسلاح اضافة الى توفير مظلة أمنية عربية لتصحيح موازين القوى مع ايران وتقليل الأعتماد المفرط على الغرب ، وهكذا تكون الدول الخليجية قد اخذت طريقها الى حلول فعلية ودائمة لمشكلتها السكانية وكذلك لمشاكلها التنموية والأمنية وهذا المسار يخدم غالبية الشعوب وكذلك ألأجيال القادمة وهذا هو المسار المطلوب من الشعوب ان تطالب به وأن لا تنتظر ان تأتي هذه المبادرة من حكومات غير منتخبة فهذا لن يحصل وللأسف