المشير سوار الذهب رجل المواقف المضيئة في تاريخِ الأمة
بموته فقدت الإنسانية مشعلاً من مشاعل الهدى ومصباحاً منيراً للسائرين نحو المعالي والدرجات العلى وودّعت الأمة عظيماً من حملة اللـواء وقادة المسيرة بعد حياة حافلة بالانجاز والعطاء لوطنه وأمته حيث كانت له مكانة مرموقة ومبادرات صادقة تجاه شعوب العالم العربي والإسلامي رحل إلى جوار به وترك حزنا عميقا في قلب ونفس كل من عرفه
في الحادية عشرة من صباح يوم الخميس 18 / 10 / 2018 غيب الموت الرئيس السوداني الأسبق المشير عبد الرحمن حسن صالح ميرغني سوار الذهب رئيس المجلس العسكري الانتقالي وخامس رئيس للجمهورية السودانية ورئيس العام الواحد توفي بالمستشفى العسكري بالعاصمة السعودية الرياض عن عمر ناهز 83 عاما حيث ووري جثمانه الثرى في المدينة المنورة في مقابر البقيع إلى جوار والده وهو اول رئيس في تاريخ السودان يدفن خارج بلاده بناء على وصيته حيث كان يمكن أن يشيع تشييعًا رسميًا وعسكريا ويُغطى بعلم الدولة لكنه آثر التكريم الديني بالأراضي المقدسة على كل مظاهر الدنيا الزائلة ومعلوم أن أهل البقيع هم أول من يحشروا في الأرض بعد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم من بعدهم أهل مكة وقد عرف عنه رحمه الله أنه ينتمى لعائلة عريقة تمتد جذورها إلى العباس بن عبد المطلب وهو رجل دولة ودعوة كان مقبولاً لكل الناس في العالمين العربي والإسلامي واشتهر بكونه ضابطا عسكريا محترفا وعلى قدر عال من الكفاءة وعرف بتدينه الشديد دون أن يعرف له عن أي انتماء سياسي لأي فصيل أو جماعة بالسودان وكان سوار الذهب حتى لحظة رحيله هو خليفة والده على (السجادة الختمية) بمنطقة الأبيض لكنه شغلته العسكرية وأعماله من بعد التقاعد عن ممارسة الخلافة وهو ينتمي دينيا إلى طائفة الختمية لكن البعض يضعه ضمن الكوادر الخفية لجماعة الإخوان المسلمين
وكان قد استلم السلطة في السودان عقب الانتفاضة الشعبية في نيسان من عام 1985 وبتنسيق مع قادة الأحزاب والنقابات التي أطاحت بالرئيس جعفر نميري حيث كان أعلى رتبة عسكرية في الجيش ويعُد سوار الذهب أول رئيس عربي يرفض التمديد لنفسه فترة انتقالية ثانية وقد سلم السلطة طواعية للحكومة المدنية المنتخبة بعد عام واحد برئاسة رئيس الوزراء المنتخب عن حزب الأمة القومي الصادق المهدي ورئيس مجلس سيادتها أحمد الميرغني بعدما أشرف على الانتخابات العامة في البلاد الأمر الذي جعل العالم مندهشا من تصرفه خاصة في المنطقتين العربية والأفريقية وعقب ذلك اعتزل العمل السياسي وترأس منظمة الدعوة الإسلامية كأمين عام لمجلس الأمناء والتي اتخذت من السودان مقرا لها وفي عام 2004 فاز سوار الذهب بجائزة الملك فيصل السنوية المخصصة لمن قدم خدمات جليلة للدين الإسلامي وقد اختير من بين 13 شخصية إسلامية عامة رشحت للجائزة في ذلك العام وعُرف رحمه الله كشخصية نادرة ضربت خير الأمثال وأروعها في الزهد والوطنية والتواضع والتدين حيث يوصف في بلده بالوفي والأمين ولا تزال تجربة الرئيس سوار الذهب في الحكم وتفضيله الاعتزال على التمسك بالسلطة مثار إشادة من مختلف السياسيين والمثقفين باعتبارها خطوة نادرة في الثقافة السياسية العربية خاصة بعد مرحلة اندلاع ثورات الربيع العربي وإصرار بعض الحكام العرب على الاحتفاظ بكراسيهم ولو على حساب دماء شعوبهم واستقرار بلادهم وقد طالعنا في حياةِ الأمم والشعوب شخصيات نادرة لا تتكرر وفي قصصِ التاريخ قرئناُ عن أشخاصٍ أعلَوا المصلحةَ العامة لبلادِهم وأمتِهم على أنفسِهم ومارسوا نكران الذات من أجلِ الأوطان يعد من ضمنهم وفي مقدمتهم الجنرال السوداني عبد الرحمن سُوار الذهب
ولد المشير سوار الذهب بالأبيض عاصمة شمال كردفان وسط السودان عام 1935 و تلقى تعليمه العسكري في الكلية الحربية السودانية وتخرج منها عام 1955 وتدرج في الرتب العسكرية حتى وصل إلى مشير وتقلد عدّة مناصب في الجيش السوداني وعين وزير للدفاع وقد تم إبعاده عن الخدمة بشكل تعسفي في عام 1972 وأرسل لدولة قطر وعمل بها كمستشار للشيخ خليفة بن حمد آل ثاني حاكم قطر للشئون العسكرية في حينه وكان بمثابة قائد للجيش والشرطة وهو أول من فرز الأرقام العسكرية وحدد أرقام للشرطة منفصلة عن الجيش كلا على حده ومن ثم قام باستبدال الزي العسكري والبزات العسكرية ببزات جديدة وحدد لكل سلاح مهامه وأصبح الجيش بذلك مستقل عن الشرطة وأسس كيانين منفصلين هما شرطة قطر والقوات المسلحة القطرية
عاد بعد الرضا عنه والمصالحة مع المايويين وعين رئيس لهيئة الأركان العامة للجيش وتدرج في المراتب العسكرية إلى ان تم تعيينه في عام 1985 قائد أعلى للقوات المسلحة السودانية مع تمديد فترة عمله بالجيش لمدة سنة لاحقة بقرار رئاسي
ووصف سوار الذهب بالرجل المواصل حيث كان موجودا يشارك الناس في الأفراح والأتراح كلها رغم سنه ومرضه وكان قد رفض جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام وتسلمها بعد حرج وممانعة وقام بتوزيع ريعها لأعمال المنظمة الخيرية من حفر لآبار وعلاج للمرضى في إفريقيا وآسيا ووصفه حفيده ميرغني سوار الذهب فقال إن جدي رجل بسيط كان شديد الاعتقاد بأن البركة والشفاء بماء الأزيار التي توضع على الطرقات العامة والتي يشرب منها المارة باستمرار طلبا للشفاء والبركة
اعتزل سوار الذهب العمل السياسي ليتفرغ لأعمال الدعوة الإسلامية والعمل الخيري حيث ترأس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية في السودان والتي كان من انجازاتها تشييد أكثر من 55 مدرسة ثانوية و150 مدرسة ابتدائية ومتوسطة وأكثر من 2000 مسجد في افريقيا وشرق أوروبا وحفر أكثر من 1000 بئر للمياه وحفر أكثر من 10 محطات للمياه في افريقيا وبناء 14 مستشفى عاما ومتخصصا وحوالي 800 مستوصف و120 مركزا للطفولة والتغذية ورعاية الأمومة والتحصين و6 ملاجئ للأيتام والإشراف عليها في افريقيا وقدم بحوثا أكاديمية متميزة في مؤتمرات كثيرة عن الإسلام والدعوة إليه والتحديات التي تواجهه وذلك على المستوى المحلي والإسلامي والعالمي وهو عضو في إحدى عشرة مؤسسة إسلامية وعالمية ويعد المشير سوار الذهب من أبرز الشخصيات الإسلامية ذات الشهرة العالمية كما كان يحظى بتقدير عال لمصداقيته لما قام به من جهود في خدمة وطنه والإسلام والمسلمين
ستظل قصة حياته سيرة عطرة ومحل اعتزاز وفخر في كُتب التاريخ والذاكرة الإنسانية تحكي انه الرئيس العربي الوحيد الذي انحاز لثورة بلاده حين كان قائدًا للجيش السوداني وتنازل عن السلطة طواعية للحكومة المدنية المنتخبة آنذاك وقدّم درسًا فريدًا في الديمقراطيّة الحديثة وهو الرئيس العربي الوحيد الذي لم يغادر كرسي الرئاسة ميتًا او معتقلًا أو منفيًّا أو مسجونًا أو فارًا أو متنحيًا او متنازلًا عن العرش بناء على ضغط من العائلة أو من قوى داخلية أو خارجية أو ثورة شعبية أو انتفاضة أو انقلابًا عسكريًّا بل فعل ذلك بكامل إرادته وقناعته وأصبح حالة فريدة لم تتكرر من قبل
نحسب المرحوم باذن الله عند رب العالمين من الرجال المؤمنين الأتقياء والصالحين الذين قدموا الوطن ورفعة الدين على كل مكاسب الدنيا كابن بار للسودان وإننا إذ ننعاه اليوم إنما ننعى مكانته السامقة وأخلاقه الحميدة وإسهاماته الوطنية والإسلامية الكبيرة وخدمته لوطنه وشعبه وأمته جندياً مخلصاً في الدفاع عن ترابها ووحدتها وسيادتها
احر التعازي للأمة العربية الإسلامية وللشعب السوداني الشقيق فى وفاة المغفور له الرئيس المشير عبد الرحمن سوار الذهب رحمة الله وأمطر على روحه شآبيب الرضوان والمغفرة وجعل قبره روضة من رياض الجنة واسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا وألهم عائلته الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون
.
mahdimubarak@gmail.com