التعديل الوزاري.. "غطّيني يا صفيّة"!



في بلد عربي ما، كلّما تقرّر تشكيل حكومة، أو تعديلها، مدّ المعنيّ يده في البئر السحرية، ليغرف منها مجموعة من الأسماء.. المعروفة التي يتوقعها الناس!
في البئر مجموعة من العائلات ذات الجينات العبقرية المتفوّقة، ليسوا كباقي المواطنين، ولا هم بالذكاء العادي كباقي أبناء الشعب!
ولولا القليل من التردد لقامت (هذه البلد العربية الـ ما) باستنساخ هؤلاء الحكماء، على غرار النعجة "دوللي"، لأن مصير البلاد والعباد حتماً غير مضمون في غياب هؤلاء أو انقطاع نسلهم لا سمح الله ولا قدَّر!
فهم لا يتركون كراسيهم قبل أن يسلّموها لأولادهم وأحفادهم، كأنما اشتروا البلاد مع العباد!
ثم يصير من الطريف أن نسمع الشكاوى والنزاعات بينهم حين يتصارخون ويتذابحون على حصصهم من "المزرعة"!
دائماً ما تساءل الناس (في البلد العربي الـ ما): لماذا يجري استعادة هؤلاء لتشكيل الحكومات أو عضويتها مرات كثيرة، وإذا كانت الحكمة محصورة في عائلات وجينات معينة، فلماذا لا يتم مثلاً تشكيل مجلس حكماء ضخم من 400 شخص يضم كل هؤلاء برتبة وراتب وزير وتكون عضويته للأبد. لإرضائهم و"كفّ بلاهم"! وتظل الحكومة بعشرة أو خمسة عشر وزيرا من التكنوقراط بعيدة عن كل هذه المحاصصات السياسية والعائلية والديموغرافية؟!
من المثير للشفقة أن ترى مُنَظِّرين متقاعدين تجاوزوا الثمانين من أعمارهم اكتشفوا الآن، أهمية "الإصلاح"!
من دون أن ينتبهوا أن كلمة "إصلاح" تعني هنا محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما خرَّبوه هم حين كانوا في مواقع صناعة القرار.
وهم في حقيقة الأمر ليسوا ضد الفساد من حيث المبدأ، لكنهم مختلفون على حصّتهم منه!
يندفع بعض هؤلاء المتقاعدين لإعطاء محاضرات هنا وهناك يطالبون فيها بالإصلاح بحماسة هائلة، حتى يكاد بعضهم يُصفّق لنفسه وهو يتحدث.. سعيدا باكتشافه العبقري، كما لو أنه "اكتشف العَجَلة"!
ويكاد المحاضر الكريم لشدة تقمّصه الدور أن يقنع البعض فعلاً أن "الإصلاح" اختراع حديث كالهواتف الذكية، لم يكن موجودا على أيامه، وأنَّه في غاية الحزن كونه لم يتح له استخدام هذه "التقنية"!
هذه المسايرات المكشوفة لا تهدف بالطبع سوى لشيء واحد، وهو أن الرجل يريد أن يظلّ في دائرة الضوء ما أمكنه ذلك، وأن لا يتقاعد أبداً، فحكمته وخبرته ثروة وطنية لا يُفرَّط فيها، وقدراته عابرة للأجيال، فهو لا يعترف بالعمر، وتنحيه عن العمل العام -لا قدَّر الله- فيه هلاكٌ للنسل والحرث، و"خراب ديار"!
وهو مقتنع تماماً أن الأجيال الثلاثة التي ولدت وكبرت خلال توليه مسؤولياته لم تنتج أي شخص يمكن أن يحلّ مكانه!
وأنه هو فقط صاحب "الجينات المتفوّقة"، فإذا كان ولا بدّ من جيل جديد، فليكن من أبنائه أو من أحفاده، أو في أسوأ الأحوال من أنسبائه، ممَّن حظوا بمعايشة هذا العبقري عن قرب، واستفادوا من فرادة موهبته، ورجاحة عقله، واستناروا من تجاربه التي.. وصلت بالبلاد الى ما وصلت إليه!
مثير للشفقة أن يعتقد البعض أنَّه فعلاً ثروة وطنية، وأنه بئر الحكمة، وأنَّ البلاد من دونه ستفقد بوصلتها، فهو مضطر لأن يكون كالعرّاف الجوَّال يحاضر كل يوم في مدينة، ليستفيد الناس جميعاً، أينما كانوا، من موهبته العظيمة، وأن يحثّهم على "الإصلاح" بصوتٍ عالٍ وجريء؛ متوعّداً بإصبعه الكبيرة، كأنَّما يعنّفهم على إهمالهم وفسادهم الذي أودى بالبلاد والعباد؛ وكأنما فُطم هو على "الإصلاح" وفطم أولاده وبناته عليه! و.. على رأي الزعيم سعد زغلول "مفيش فايدة.. غطّيني يا صفيّة"!