البداية الصحيحة سهلة ولكن

 

في الأسبوع الماضي وفي صالون الأربعاء كتب الدكتور عدنان هياجنة  في زاويته الأسبوعية، عن التعليم العالي وإشكالية الإنفاق الحكومي على التعليم العالي في غياب إستراتيجية حكومية واضحة، تسعى إلى تطوير خطط وأداء ومخرجات العملية التعليمية.

نكأ الدكتور هياجنة بمقالته تلك جرحا غائرا في الذاكرة والقلب يأبى أن يندمل، فأنا ما زلت مصرة على أن إحدى طرق الثورة على التخلف والظلم، والقمع والفقر والجهل هي الثورة التعليمية المعرفية، وما زلت مؤمنة بأن أهم مكونات المشروع الإصلاحي السياسي هو المشروع الإصلاحي التربوي التعليمي، الذي يبنى عليه المشروع الإصلاحي الفكري الثقافي، والذي يحمل بدوره مشروع الإصلاح السياسي الاقتصادي.

تحدثت مسبقا كثيرا وطويلا حول العملية التعليمية في الأردن، وعن المنزلق الخطر التي تخطو إليه المؤسسات والمناهج والخطط التربوية التعليمية منذ سنوات، والأرقام التي ذكرها الدكتور هياجنة في مقاله تؤكد على تأصل واستفحال عاملان مهمان في أداء وآليات عمل وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي، ألا وهما عامل الفساد وعامل العشوائية.

مؤسسة الفساد تؤسس إلى استبعاد الكفاءات الوطنية القادرة على الإصلاح، وتعمل جاهدة على تغييب الأدمغة المفكرة الجديرة برسم خارطة طريق واضحة المعالم، كما وتهدف إلى احتكار السلطة في قبو مظلم معزول عن الانفتاح والتطور بما يتلاءم وروح العصر، في الوقت الذي تسعى فيه جاهدة إلى تقطيع وتشويه جميع الطرق والروابط التي تربط الفرد بالجذور والأصول والمنابت، وبهذا يتمكن الفاسدون المفسدون من الاحتفاظ باستثماراتهم ومكاسبهم ومصالحهم، في غياب الشخصية الرقابية الحكيمة القادرة على الوقوف على أرض تراثية تاريخية صلبة بعنق ممشوق وممتد في الفضاء الحضاري الرحب، وعليه فإننا نجد سيناريو الفساد في أي دولة أو حكومة أو مؤسسة متشابه إلى حد كبير في كل أنحاء العالم، حيث يبدأ بالانفراد في الحكم وتوزيع المناصب على أساس شللي، ثم السيطرة على المصادر والموارد واحتكارها، والانغلاق على الذات ومحاربة الفكر الآخر وإقصاء الوطنيين وتهميش بل واستعداء الإصلاحيين، حتى يتم له الاستحواذ الكامل على الغنيمة قبل حفل توزيع الغنائم.

العامل الأول ألا وهو الفساد يصب بالضرورة في مصب العامل الثاني ألا وهو العشوائية والتخبط ، مما يؤدي بصورة حتمية إلى الفشل، وهذا ما يحدث في مؤسساتنا التعليمية بل وفي القطاع العام بأكمله.

اللامنتي لا يهمه الصالح العام لأنه غير معني بمصالح الآخرين الذين لا يشعر بانتمائه إليهم، ثم إن العقلية التجارية لا يمكن لها أن تدير عملية تربوية تعليمية، والرأي غير المبني على رؤية عميقة واطلاع واسع وفكر راسخ لا يسفر عن منجزات راسخة ومستدامة، والمناصب عندما توزع على المسؤولين والموظفين كقسمة الإرث ستبقى المناصب ووظائفها شاغرة إلى الأبد، والمال العام عندما يهدر على المتنفذين والوصوليين سيغري الشطار على التكالب عليه وسرقته، والفكر الذي يطمح إلى تحقيق مكاسب شخصية آنية غير معني بوضع خطط وإستراتيجيات مدروسة بعناية من أجل تحقيق أهداف بعيدة المدى، تتمحور حول إنقاذ وطن وبناء أمة ونهضة أجيال.

العمل العام الوطني يحتاج أولا إلى تحديد أهدافه بشكل واضح، وتحديد تتابع أهمية إنجاز هذه الأهداف، ومن ثم تحديد الموارد والمصادر وأوجه الإنفاق والموازنة العامة، ثم المباشرة في وضع خطط واضحة بمراحل مختلفة تبدأ من الأسهل فالأصعب، ولابد أن تكون جداول العمل محددة بجداول زمنية معلومة ومرتبطة بميزانية متوافرة أو ممكنة، وبعد ذلك يتم حساب مدى إمكانية تحقيق كل هدف من الأهداف قريبة المدى أو بعيدة المدى، وحساب نسبة نجاح كل هدف وأهميته، وتحتاج الخطة إلى حساب معوقات كل مرحلة ومعيقات التقدم والإنجاز، كما ولا يفوتنا عملية التقييم الضرورية بعد كل مرحلة سابقة وقبل كل مرحلة لاحقة.

هذه البداية التي ذكرتها ليست اختراعا عبقريا، بل هي بداية بديهية وطبيعية للعمل في أي لجنة أو مؤسسة أو شركة أو وزارة، لكن المعضلة تكمن في أهداف المسؤول القادم، وكفاءته العلمية والعملية للمنصب الجديد، ونظرته وفكره وثقافته وتحليله لمعنى الكرسي الذي سيكتم أنفاسه لسنوات قبل أن يسلمه إلى ابنه أو نسيبه أو حتى جاره!

وإلى كل أولئك الذين سيغضبهم مقالي هذا أوجه أسئلتي المسجّاة بين أهداب الوجع في ليل القهر:

بالرغم من استحداث التعليم الموازي والتعليم الدولي ليصبح القبول الجامعي معتمدا على ثروة الأب لا على نتائج الطالب، لماذا لم نتمكن من تطوير آليات التعليم وتحسين مخرجاته؟

لماذا بالرغم من اكتظاظ الوطن بالمدارس والجامعات الحكومية والخاصة وورش العمل والمؤتمرات، تزداد لدينا الأمية المقنعة والجهل المغلّف بشهادة مختومة بمعدل 99%.

هل رؤساء الجامعات ومدراء المدارس والمسؤولين في مؤسسات التربية والتعليم بشكل عام هم أكفأ رجال ونساء الوطن لحمل هذه الرسالة المقدسة؟ هل هم أكثر أبناء الوطن علما ووطنية؟ وأعمقهم فكرا وثقافة؟ وأحرصهم على الكلمة والمعرفة والتراث والتاريخ والحضارة والأخلاق ومستقبل الوطن وكرامة أبنائه؟

لماذا نرى الأجيال تنسلخ عن قضاياها الوطنية القومية الكبرى وتتطلع بشغف إلى ستار أكاديمي وطرق الكسب السريعة والزواج العرفي؟

هل نستطيع أن نقتطع من الأموال التي تنفق على رفاهية حضرته ومياومات فخامته، وولائم ومناسف حفلات استقبال عطوفته ومعاليه وسعادته، لنوظفها في البحث العلمي ورعاية الموهوبين وتطوير أداء الكادر التعليمي وتحسين البنية التحتية للمدارس والجامعات؟

أم أنني سأظل أحاول جاهدة أن أعوّض أطفالي التقصير الكبير من قبل مدرّسيهم ومعلميهم غير المؤهلين لأدوارهم التربوية التعليمية، في غياب الدور الإداري الرقابي الإرشادي للإدارة والمشرفين والمسؤولين، وأعمل على رتق الثوب المعرفي المهلهل للمدارس والجامعات، وأكرر محاولات إقناع أبنائي بأننا أمة "اقرأ"، إلا أن فيروسات الفساد وعدم الانتماء واليأس تسربت إلى أجهزة الدولة، وتسببت بخلل جسيم شل الأمة برمتها، وأظل أقص عليهم بلسان أحرقته شظايا الحسرة، قصة "أتذكر لمّا كانوا وكنّا"!.