العقوبات المجتمعية البديلة خطوة حضارية للوقاية والإصلاح


بفهم قانوني متميز وبشجاعة وسبق إجرائي فريد اصدر مشكورا احد قضاة محكمة بداية شرق عمان أول قرار بتنفيذ عقوبة الخدمة المجتمعية البديلة عن الحبس وعلى الرغم من بدء تطبيق العقوبات البديلة مع نشر تعديلات قانون أصول المحاكمات الجزائية في الجريدة الرسمية في الأول من شهر آذار الماضي إلا انه لم يقدم أي قاض على فرض هذه العقوبة من قبل وتطبيق هذه العقوبة جاء كحراك إصلاحي مما ورد في الخطة الوطنية الشاملة لحقوق الإنسان وهي تغييرا متحضر وعصري في فلسفة المشرع الجزائي المستقبلي في الأردن

ومن المعلوم إن العقوبات السالبة للحرية وخصوصا عقوبة السجن هي العقوبات التقليدية المعمول بها في أغلب دول العالم رغم ما لها من آثار سلبية على الفرد والمجتمع والدولة
وقد خلّفت العقوبات السالبة للحريات كثيرا من الانتقادات في العديد من الدراسات والأبحاث الجنائية والقانونية في العقود الماضية حول العالم وهو ما دفع دولاً عديدة للتقليل منها بهدف التقليل من سلبياتها النفسية والاقتصادية والاجتماعية الفادحة التي تمتد لحياة الأفراد والمجتمع والأسرة والعشيرة الذين لا ذنب لهم بالجريمة المقترفة وتبقى فعلته وصمة عار تلاحق وتطارد المحكوم طيلة حياته وتمنع تقبل سوق العمل له وعلى نحو يصعب معه إعادة إدماجه في المجتمع كعنصر فاعل ومنتج وان من أهم أثارها الواضحة التي تستوجب المزيد من الدراسة والتحليل ظاهرة إفساد المسجونين عن طريق الاختلاط وتعليم البعض اعتياد الإجرام واكتساب خبرات إجرامية وانتقال عدواها للمحكوم عليهم الأقل إجراماً وبذلك بدل أن يتحول السجن إلى مكان للتهذيب والتأهيل والإصلاح يصبح معهد لتخريج مجرمين جدد خاصة ان هنالك نسبة عالية من تحول جرائم المصادفة إلى جرائم الاحتراف داخل مجتمعات السجون وفي الحقيقة ان عقوبة الحبس لم تعد رادعه لأنها تركز على الجانب ألتجريمي دون الإصلاحي

يشار الى أن كلفة إيواء النزيل الواحد في مراكز الإصلاح تبلغ 8285 دينارا سنويا دون وجود جهات أو منظمات دولية تتحمل أي جزء من تكاليف الإيواء للنزلاء ويبلغ عدد نزلاء مراكز الإصلاح 14200 نزيلٍ موزعين على 17 مركز إصلاح وتأهيل اثنان منهم مخصصان للنساء ومن المنتظر بحسب ما أعلن رسميا أن يساهم البدء بتطبيق العقوبات البديلة بخفض عدد نزلاء مراكز الإصلاح بنسبة كبيرة إضافةً إلى خفض إنفاق الحكومة على السجون من 90 مليون دينار إلى 69 مليون دينار

ولهذا ينبغي عدم التوسع في تطبيق العقوبات السالبة للحرية في جميع الجرائم المرتكبة والأخذ بالعقوبات البديلة لوقف الإرهاق ميزانية الدولة خصوصاً مع ازدياد أعداد السجون والمساجين وكذلك لعدم تعطيل الإنتاج وحرمان الاقتصاد من نتاج أعمالهم ووظائفهم وإبداعهم خارج السجون ومحاربة روح الاتكالية لدى بعض فئات المساجين الذين قد يفضّلون البقاء في السجون والحصول على مأكل ومسكن مجاني بدلاً من الصراع للحصول على الحد الأدنى من الحقوق خارج السجن وتبنّي السجين ثقافة السجون وصعوبة الخروج من مجتمعها حتى بعد الإفراج عنه يظل يبحث عن تلك الحاضنة ورفاق السوابق بدل الانخراط في المجتمع اوالمهم في تطبيق العقوبة المجتمعية حمایة الأحداث وذوي الجنح الصغیرة من الاختلاط بأرباب السوابق والمجرمین الخطیرین وتھذیب النفس البشریة وهناك ما هو أكثر خطورةً من انهيار أسرة السجين وتفككها أو انحراف أفرادها وهو في السجن

ومن اجل ذلك اتجهت العديد من الأنظمة العدلية في العالم ومنها الأردن إلى تفعيل السياسات العقابية الحديثة بالعمل على تطبيق العقوبات البديلة لأسباب إنسانية واجتماعية ووطنية واقتصادية سيما في الجرائم والمخالفات التي تقع أول مرة او ذات الأحكام البسيطة للمساهمة في التخفيف من حدّة اكتظاظ السجون وحث المذنبين وتشجيعهم على خدمة المجتمع وتھذیب النفس البشریة وتنمیة مفهوم العمل التطوعي وتفعیل قيم الولاء والانتماء والمحافظة على الانجازات والمكتسبات الوطنیة

ويتمثل مفهوم العقوبات المجتمعية البديلة عن السجن بعمل غير مدفوع الأجر لخدمة المجتمع لمدة تحددها المحكمة بحيث لا تقل عن (40) ساعة ولا تزيد على (200) وينفذ العمل خلال مدة لا تزيد على سنة تحت الرقابة بحسب المادة (25) مكررة من قانون العقوبات المعدل الرقم 27 لعام 2017 يلجأ إليها القاضي في قضايا معيّنة ووفق ضوابط محددة، لكي تكون هذه العقوبات ذات أثر وتحقق المقصد والهدف منها
وكانت وزارة العدل قد وقعت مذكرات تفاهم مع وزارة التنمية الاجتماعية والأوقاف والزراعة والشؤون البلدية والتربية والتعليم والشباب وأمانة عمان بهدف تحديد مجالات التعاون والتنسيق بين الوزارات والجهات الحكومية المشاركة في مجال توفير الأماكن والمجالات المناسبة لتطبيق العقوبات البديلة ومتابعة الرقابة والإشراف على حسن تنفيذها من قبل المحكوم عليه وتوفير المعاملة الحسنة له

إذا أصبح من الممكن اليوم تخیل ومشاهدة شاب یقضي عقوبته القانونیة بتنظیف عدد من الحدائق العامة أو سارق من الأحداث یقضیھا في خدمة المرضى أو طالب شتم معلمه یساعد في دار للعجزة وآخرون عقابھم تجمیل ودھن عدد من الجدران التي خربوا مضھرھا ومن الممكن تكون غرامة أو أسواره الكترونية أو تنظيف المسابح العامة أو نظافة الشوارع أو المدارس والمستشفيات أو الخضوع لبرامج تأهيلية لمعالجة إدمان المخدرات والكحول والسيطرة على الغضب والقائمة تطول لكن قبل تطبيق العقوبة البديلة نحتاج الى برامج توعية شاملة و بيئة مجتمعية حاضنة لفكرة المشاركة في تطبيق وتنفيذ العقوبات ولا بد من اجل ذلك من توظيف الخطاب الديني الوسطي للمساهمة في تقبلها ونشرها والعقوبة المجتمعية لا تسري إلا إذا وافق عليها الشخص المحكوم عليه وأن تطبيقها سيطال الجنح البسيطة فقط وقد أكد الكثير من الخبراء النفسیون أن العقوبات المجتمعية سوف تساھم في خلق شعور كبیر بالرضي عن الذات وترفع مستوى الرغبة في العمل والانجاز وتزید من حماسة الفرد كما أنا ستعمل على امتصاص التشاؤم والعدائیة وتعويضها بنظرات التفاؤل التي یملؤھا الحب والأمل للمجتمع والإنسانیة ومن أھم فوائد ھذه الأعمال المجتمعية تساعد على قتل روح الفردیة في نفوس المواطنین سواء المحكومين كما أنها تنمي قدراتهم على التفاعل والاتصال مما یؤدي إلى خلق مجتمع واثق ومتكافل وصاحب شخصیة خلاقة بعیدا عن المادیة والإحباط والیأس وانها أيضا تشكل عقاب نفسي ربما أقسى من السجن لأن المراد من ھذه العقوبات خدمة المجتمع وإشعار المدان بمدى الخطأ الذي ارتكبه وما هي الفائدة من وضعه في السجن والإنفاق عليه وإعانته بالمأكل والمشرب والمنام والحراسة وغيرها بینما یمكن له أن یخدم في عدد من المواقع والأماكن حسب ظروفه وطبيعة عقوبته

وان فلسفة بدائل عقوبة السجن تكمن في أنها مجموعة من العقوبات والتدابير الاحترازية التي تتكفل بإصلاح الفرد وفي الوقت نفسه تشعره بالجرم الذي ارتكبه واستحق عنه العقاب ليتجنب ارتكابه مستقبلا ويرتدع غيره أيضا كما أن بعض المدانين يتمتعون بمركز اجتماعي أو انه انقاد إلى الجريمة بطريق الصدفة أو تحت تأثير الحاجة الملحة أو الحالة العصبية والنفسية الأمر الذي يتطلب معاملة هؤلاء بشكل مختلف ومن جانب آخر ان أغلب جرائم الجنح والمخالفات معاقب عليها في القانون بالحبس لمدد قصيرة وقد ثبت عدم فاعلية العقوبة فيها بل أنها كانت مرات عديدة سبب مباشراً في انحراف وإفساد الشخص داخل السجون بدل إصلاحه وإعادة تأهيله وان تطبيق العقوبة البديلة في الأردن مؤخرا يعتبر نقله نوعية متقدمة في مجال حقوق الإنسان وتطوير التشريعات القانونية والمؤسسات القضائية وقد أخذت بهذه التجربة العديد من الدول مثل ايرلندا والبرازيل واستراليا وبعض الولايات في أمريكا ومنها وخشية استغلال هذه العقوبة للتنكيل بكرامة ومكانة المحكوم عليه اقترح البعض أن يكون عمله في دور الأيتام والعجزة وما شابه ذلك

mahdimubarak@gmail.com














.. .


.
.