تجربة جديدة

العودة إلى هذا المنبر بعد غياب امتدّ ثلاث سنوات, تستوجب وقفة.

خلال فترة غيابي عن " العرب اليوم", كتبتُ في منابر محلية وعربية عديدة. غير أن الكتابة لـ"العرب اليوم", لها سحرها الخاصّ بالنسبة للكاتب, وتأثيرها الخاص على القارئ. والسحر يستمد وهجه من قدرة النص المنشور في هذه الصحيفة على التأثير الغامض المتسلّل إلى دوائر اجتماعية وسياسية عديدة ومختلفة, فيما يمكن أن نعرّفه تحديدا بالحركة في مجال "السلطة الرابعة", بعبارة أخرى: سلطة الصحافة لا صحافة السلطة.

ليست " العرب اليوم" في العقد الأول من هذا القرن, مجرد منبر, بل تجربة أردنية غير مسبوقة وفريدة في ممارسة سلطة الخبر والتحليل والرأي, تلك السلطة التي تفرض نفسها بالإقناع المعزّز بالتجرّد والعفة والإلتزام المهني. خاضت " العرب اليوم", معركة الحقيقة والحرية - وفي معظم الأحيان, منفردةً - من الكشف الجريء لملفات الفساد وسوء الإدارة والهدر المالي, إلى التعليقات النقدية العميقة على السياسات الرسمية, إلى إثارة الجدل المستمر حول الإصلاح السياسي والقضية الوطنية والقضية الاجتماعية ورؤى التنمية المحلية المتعاضدة إلى آخره مما حفلت به صفحات جريدتنا على مدار عقد كامل. وفي إحدى هذه المعارك ضد الليبرالية الجديدة, في آب 2008 ، حصلت تعقيدات اودت بهذا العمود, وذهبتْ بي إلى إجازة قسرية انتهت اليوم.

وخلال إجازتي الطويلة, حدثت متغيرات عميقة. فمعركة الحقيقة والحرية, لم تعد معركة منبر صحافي وحيد يقارع المستحيل, بل أصبحت معركة الآلاف من أبناء شعبنا المندفعين إلى ميادين العمل السياسي والإعلامي الجديد. بل أن رسالة " العرب اليوم" أصبحت الآن راسخة في الوعي الأردني الجمعي, ومحلّ نقاش جماهيري, ومطالبات شعبية. أعني أن مشروع الصحيفة المستقلة, المهني, انتصر- على مستوى الوعي- في السياسة. وهذه أكبر جائزة قد ينالها صحافي على الإطلاق. غير أن الإنتصار يفرض مسؤوليات جديدة على المنتصرين, منها الصبر والتواضع والحكمة والتبصّر العميق لاكتشاف لوحة المرحلة المقبلة وخطوطها المتشابكة المعقدة والخطرة.

وقبل أن احصل على " إجازتي" القسرية الطويلة التي انتهت اخيرا, عشت تجربة " العرب اليوم", وساهمت في معاركها, بين عامي 2000 و,2008 مطلقا العنان لقلمي وأفكاري ومقارباتي المثيرة للجدل -وربما السخط - لكن في تناغم سيمفوني مع فريق الصحيفة, وفي ظل الدعم الأخوي الصبور للدكتور رجائي المعشر الذي تحمّلني واحتمل عني, حدّ الإرهاق.

صوتي -وزملائي- كان صرخة عالية مثابرة في بريّة الصمت والمَلَق, لكن, عندما تضجّ البرية بالصرخات, سيكون على الرائد الذي لا يكذب أهله أن يجتهد من أجل تمييز الألوان وفهم المعادلات وفتح الدروب المقفلة.

اعود للكتابة لـ" العرب اليوم", وقد تحولت راديكاليتي الوطنية الاجتماعية التي كانت, لسنوات طويلة, رؤية محاصَرة فردية, إلى ظاهرة وأسلوب تفكير وتيّار. ولا يستخفني الإنجاز الذي سدّدتُ ثمنه كاملا, متحملا شتى الاضطهادات, بل أسعى إلى تجربة فكرية جديدة, عنوانها الشك وليس التشكيك والنقد الذاتي والمراجعة والانتقال من مجرد الفهم إلى التفهّم. إننا مقبلون على مرحلة صعبة جدا, مفتوحة الاحتمالات وخطرة للغاية, مما يفرض على المثقفين الأردنيين, مسؤوليات من نوع جديد, تتطلب عقلانية نقدية جديدة.

ما زلتُ على خط المفكر اللبناني الشهيد مهدي عامل القائل إنه لا تفكير خارج بنية احتماعية سياسية معيّنة, وخارج موقع اجتماعي سياسي معين. وسوى ذلك تهويم أو دجل أو تضليل. فنحن محكومون, إذن, شئنا أم ابينا, بالبنية الوطنية وعلائقها. وهي, في حالتنا, البنية الأردنية. وإذا كان كل نشاط فكري محكوما, صراحة أو مداورة, بخدمة قوى اجتماعية محددة, فأنا اخدم, وسأظل أخدم, في البنية الأردنية - وبلا مواربة- الفئات الشعبية الكادحة والمهمشة المندرجة في مهمة تاريخية هي تحرير المشروع الوطني الديمقراطي الأردني من معيقاته, وادراج شعبنا في نَظْمَة صاعدة ومنتجة ومزدهرة ومقاومة وقادرة على منح الأردن, مكانته الممكنة عربيا ودوليا. ولا يستبعد هذا المشروع الوطني الديمقراطي العروبي احدا, بل يفتح ذراعيه لاحتضان كل الساعين إلى الانتماء للشعب والمشروع. فالأردن -عندي- فكرة وقضية وليس جغرافيا ونسبا.

فكرة الأردن, بالأساس, فكرة إبداعية. الأردن ليس وطنا معطىً, بل هو وطن خلقته إرادة الإنسان في تحدي التاريخ والجغرافيا معا,معاندة الصحراء ونحت الحضارة في الصخر, وتنظيم الممكنات المحدودة في بناء وطن, وتحويل الممر إلى مستقر, وسلسلة الجبال الصعبة الوعرة الفاصلة بين سهول البحر والفيافي الصحراوية, إلى ذات تاريخية, والحياة اليومية الكادحة واللهجة القاسية إلى نمط حياة ورؤية ووجدان وقصائد وعرق ودم وتضحيات ورضا. ولذلك, لم يتعصب الأردنيون يوما إزاء شخص قَدم ليشاركهم معاناة نحت الوطن, لكنهم تحزبوا دائما ضد الهدامين الفاسدين من شتى صنوف الكمبرادور التجاري والعقاري والسياسي.

وكلما كانت العواصف تأتي على الفكرة والإرادة كان الوطن الأردني يغيب, ثم يحضر بهما منذ عمون القديمة والبتراء والغساسنة والأمويين فإلى صلاح الدين- مؤسس دولة المقاومة في جبال الأردن- وحتى ملحمة انتصار الفلاحة والحضارة في القرن التاسع عشر, وانبثاق الأردن الحديث ومشروعه الوطني الديمقراطي الذي ما يزال يحاول منذ حسين الطراونة إلى سليمان النابلسي إلى وصفي التل.

غابت الفكرة -والإرادة- ردحا من الزمن, كنا, خلالها, نحافظ على الجمرة مشتعلة في الصدر. لكن الفكرة والإرادة تعودان الآن, تنبجسان مثل دالية تشقّ الصخر.

للدالية وللصخر, منحت حياتي, وسأمنحها .

ynoon1@yahoo.com