الملك يكسب جولة في الحرب الصامتة


نلجأ أحيانا الى بعض المقارنات الصامتة، ونخوض حروبا صامتة، ومن بين المقارنات نذكر مثلا أداء الدولة الأردنية في عهد جلالة الملك الحسين رحمه الله، ونعتبرها أياما جميلة تبعا للظروف السائدة آنذاك، بينما لا نؤشر على اختلاف الظروف في وقتنا الحالي عنه في الزمن السابق، فعلى الرغم من ارتفاع سقف الحريات وتجذر الشفافية في أداء الدولة مقارنة بتلك الأيام، وعلى الرغم من أن كل مواطن أصبح في قرارة نفسه يقتنع بأن له دور ورأي في الذي يجري او لا يجري، على الرغم من هذا وذاك فإننا لا نعدل ولا نفي الدولة ورأسها وصانع قرارها حقه !..هي مفارقة لا وقت للخوض فيها فلها أسبابها وفيها جانب كبير متعلق بالوعي وسرعة أو بطء نموه.
ومن حروبنا الصامتة التي لم تتوقف منذ تأسست الدولة الأردنية، جولة الحرب السياسية المستعرة ضد الأردن على الصعيد الاقتصادي، حتى بات الأردني يعتقد بأن الذين يحاربوننا، هم من يتحكمون بمقدار الأوكسجين الذي نتنفسه، وهي مقولة واقعية الى حد بعيد، لكننا لم نلتفت الى الإجابة عن السؤال: من هو أكثر أردني يقع في عين المواجهة في هذه الحرب الصامتة ضد الأردن؟..
تستعر هذه الحرب؛ حتى في الشأن المحلي، وتتطلب اهتمام الدولة ومؤسساتها واستنفارهم في حماية البلاد، وفي خضم هذا كله، يرفض جلالة الملك كل الاغراءات والضغوطات، وينتصر للمبادىء الأردنية التي لم تتغير، وفي خطابه أمام الجمعية العمومية أمس الأول، أثبت جلالته هذا الالتزام، وعبر عنه بأنسب لغة، وصلت الى جميع الآذان والأطراف، ونالت استحسان كثيرين، وقالوا عنها كلاما سياسيا، تفاوتت معانيه تبعا لقائله، لكن أغلبية من قالوا، هم لم يملكوا شيئا سوى أن يعبروا عن موقفهم من الملك ومن القضايا والتحديات التي طرحها، وذلك رغم وقوف بعضهم في جبهة الحرب الصامتة ضدنا.
رفض الملك تصفية القضية الفلسطينية، وتلك الحلول أحادية الجانب «لا سيما العنصرية» التي تتنافى مع أي سلام ومع كل العدالات، وتمسك أكثر بالوصاية الأردنية الهاشمية على المقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس، وطرح ورقة اللجوء السوري التي كادت أن تقصم ظهر الأردن لولا أخلاق أهله وحكمة قيادته وطالب الأطراف المتسببة بالأزمة وغيرها بالقيام بدورها الأخلاقي، وتحدث عن مآلات تصفية حقوق اللاجئين السوريين والفلسطينيين أيضا، وشرح بقوة معنى وخطر عدم دعم «الأونروا» ونتائج التخلي عن رعاية اللاجئين وأثرها على المنطقة وملفاتها وخطرها على السلم والأمن وتغذية جبهة الارهاب، وقد جاء ذلك كله في سياق الدور القانوني والأخلاقي الذي أسست لأجله الجمعية العمومية وهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها.
كثيرون منا ومنهم؛ لم يتوقعوا هذا الحديث الأردني الذي قدمه جلالة الملك للعالم، اعتقادا بأن الأردن وتحت وطأة هذه الحرب الصامتة سيتخلى عن مواقفه ومبادئه، أو ينحو الى التهدئة وديبلوماسية الفكرة والعبارة لتجنب المزيد من القسوة على الأردن، التي تقودها جهات وأطراف نعرفها جيدا، ونعرف ونرى ونسمع مواقفها وقراراتها السلبية المتعلقة بالملفات التي تحدث عنها الملك، والت ي أدخلت الأردن في أزمات نوعية ووضعته هو وكل مواطن فيه في زاوية حرجة، لا يخرج منها الا القوي أو الذي يبيع نفسه فيرضخ أو يقدم تنازلات أو يتخلى عن أدوار، لكن جلالة الملك حسم كل هذه المقامرات والمحاولات من خلال خطابه، فهو ما زال يتحدث بقوة وبالتزام واقعي ومنطقي بمواقف بلده وبوجهة نظره العقلانية، المستندة الى العدالة كما يفهمها الأحرار وأصحاب المبادىء.
هذه جولة من الحرب الصامتة ضد الأردن ومواقفه ومبادئه، حسمها الملك عبدالله الثاني بكلماته التي أكدت للجميع بأننا لا ولن نتنازل، أو ننخرط في عمليات سياسية تتنافى وروح العدالة الكونية، وتفضي في الوقت نفسه الى مزيد من أزمات وتوتر وفوضى ..
خطاب الملك انطوى على أهم رسالة للعالم الخارجي وللداخل وهي : لن يرضخ الأردن ولن يتنازل، فهو يتبنى موقف العدالة والحقيقة والعقل والقانون، ولا يساوم على هذه الثوابت الانسانية الحرة