الملك إذ يقود عملية الإصلاح السياسي وحده?
-رنا الصباغ- تعكس لقاءات الملك وأحاديثه منذ هبوب رياح التغيير على الدكتاتوريات العربية رغبة شخصية ملحة لتسريع الإصلاح بطريقة قد تكون متقدمة على مواقف حاشيته ورجال الطبقة السياسية والأمنية وجيش البيروقراطية المهووسين بحماية مكتسباتهم ومصالحهم, بعضها على قاعدة الجغرافيا.
يقول وزراء, ساسة سابقون, رجال أعمال وشباب ممن يلتقون رأس الدولة بشكل منتظم إن ملك اليوم يختلف كثيرا عن ملك الامس. ويرون أنه توصل إلى قناعة حقيقية مدعومة بحماس منقطع النظير باستحالة إدارة مفاصل الدولة الرئيسية بالطريقة القديمة, وأنه لا بد من إعادة لملمة الدولة الأردنية بسرعة لضمان مستقبل آمن لا يواجه فيه ولي العهد عين التحديات.
خطابه السياسي الصريح والتقدمي سيطر على أجواء لقائه مع مجموعة شباب ومثقفين وكتاب زوايا يوم الأربعاء. من حضر اللقاء قال إنه خرج مصدوما من عمق شكواه من قوى الشد العكسي داخل السيستم, "والديناصورات" التي تعمل المستحيل لحماية مصالحها الضيّقة عبر تعطيل مسار الإصلاح السياسي الذي رفع لواءه من دون نتائج قبل 11 عاما, قبل أن يعود لتسريع وتيرته منذ سبعة أشهر. تلك الطبقات المتنفذة تريد إفشال دولة المواطنة والقانون والتعددية المفترض أن تصون مصالح الشعب ومؤسسة العرش.
فغالبية المتنفذين يقولون له شيئا في الاجتماعات المصيرية والروتينية وينفذون عكسه, بحسب ما قال لضيوفه.
وهو يصر في لقاءاته على رغبته في تشكيل حكومات برلمانية برعاية أحزاب سياسية فاعلة ذات برامج عملية قابلة للتطبيق تمثل مختلف التيارات, مدعومة باقتصاد سوق منفتح, ببيئة اجتماعية وثقافية معتدلة وطبقة وسطى فاعلة.
يقول الملك الآن انه لن يتراجع عن مسار الديمقراطية, بخاصة بعد أن وفر الربيع العربي فرصة عمر انتظرها منذ 11 عاما لتنفيذ الإصلاحات المنشودة قبل نهاية العام, بعد أن يقر مجلس الأمّة تعديلات دستورية تكرس التوازن بين السلطات ويمرر قانوني الانتخاب والأحزاب السياسية.
بذلك تكون البنية القانونية قد جهّزت للوصول لاحقا إلى حكومات تعكس ميزان القوى السياسي في مجلس النواب وترفع عن الملك عبء اختيار شخصية تقود الفريق الوزاري وتحمل تبعات السياسات في حال الفشل. باختصار يريد الملك تغيير الآلية التي تتحكم في المشهد السياسي الداخلي بالتدرج. فالمخزون الاستراتيجي لرؤساء الوزراء نضب بعد أن جرّبت غالبية ألوان الطيف السياسي. كما نحتت أخطاء وخطايا السلطة التنفيذية من الطبقة العازلة المفترض أن تبعد رأس السلطات عن المساءلة عن سير التنفيذ.
أحد المشاركين في حوار الأربعاء قال لكاتبة المقال إن مواقف الملك أمامهم تسبق بمراحل شعارات ترفعها قوى حزبية ومجتمعية في مسيرات تجوب البلاد عقب صلوات الجمعة منذ الإطاحة ب¯"زين الدين عابدين بن علي وحسني مبارك". ضيف آخر تحمس وطلب من الملك أن يقود شخصيا "ثورة" إصلاح النظام لكي يضمن عملية الانتقال إلى الديمقراطية - من قواعد لعبة مغلقة إلى مسرح مفتوح قائم على التنافس, النزاهة والشفافية. وقال ثالث إن التاريخ الحديث في أوروبا الغربية وآسيا مليء بتجارب قيادية مماثلة في دول ذات نظم شبيهة. فالعاهل الاسباني خوان كارلوس مثلا لعب دورا شخصيا في سبعينيات القرن الفائت لضمان انتقال بلاده من نظام الجنرال فرانكو الدكتاتوري إلى نظام ملكي تعددي يحترم الرأي والضمير والدين.
بالطبع تبقى هناك فوارق بين نوايا الأردن الإصلاحية وتجربة اسبانيا مثلا. كما تختلف العوامل السياسية, الثقافية, الاجتماعية ومنظومة القيم التي توفر حواضن للمرحلة الانتقالية من بلد إلى آخر.
لكن المؤكد أن المرحلة الانتقالية تكون عادة هشة, هجينة ومؤلمة كمخاض الولادة, ويصعب التكهن بنتائجها مسبقا. والحكم على الوعود والأداء سيكون عبر صناديق الاقتراع وحماية مشروعية النظام.
أردنيا, فشل المدخل الاقتصادي أو الثقافي في إحداث النقلة المطلوبة صوب الديمقراطية منذ تولى الملك سلطاته الدستورية. ولم يبق اليوم إلا المدخل الدستوري السياسي التدريجي الذي قرر الملك خوض غماره.
على أنه يواجه جبالا من التحديات. فلا توافق مجتمعيا حول تحديد مفهوم الديمقراطية والمستقبل الذي نريد في ظل انقسام الجبهة الداخلية وغياب حل نهائي للقضية الفلسطينية يساعد على تحديد مسألة الولاء السياسي للمواطن لكي تبدأ كرة الثلج بالتدحرج. موقف المؤسسة العسكرية والأمنية غير واضح حيال التغيير المنشود, وكذلك حال المؤسسة الدينية التي تؤثر على قيم ومسلكيات المجتمع. الشخصيات الفاعلة في المشهد السياسي ما تزال تتعامل بعقلية "الربح المطلق والخسارة المطلقة" وليس "الربح النسبي والخسارة النسبية", وتخشى من الثمن الاجتماعي للتغيير, ما يحد من دورها خلال عملية الانتقال. دور الأحزاب السياسية, باستثناء الإسلاميين المشكوك بتقبلهم للتعددية وحقوق الأقليات, ضعيف ولا تقدم أي برامج عمل واقعية تشجع المواطن على الانضمام إليها بعد عقود من تخويف المواطن من الأحزاب. وفوق ذلك أضرت ممارسات الفساد خلال السنوات الأخيرة بصورة الأردن داخليا وخارجيا.
الاقتصاد لا يقوم على التصنيع والاستثمار والهيكل الضريبي العادل ليشجع الناس على محاسبة السلطة. ضعف النمو وسوء توزيع الثروات فضلا عن الشطط في إطلاق مشاريع مليارية لا تنعكس على بطالة الفقراء تعطل ردم الهوة بين غالبية فقيرة وأقلية غنية تجلس على مقاعد الحكم أو تتحالف معه. غالبية طبقة الشباب غير مؤثرة في صناعة القرار بعد ان تخرجت من مدارس لا تشجع التفكير بمنهجية نقدية ثم انخرطت في جامعات تحكمها القبضة الأمنية. شباب ضائع بين شد العشائرية السياسية, الأيديولوجية الدينية, الفكر اليساري وحزب الدولة. لا توجد طبقة برجوازية وطنية تحمل مشعل التغيير والإصلاح وسط مناخ فكري سياسي بدائي. ولم تبرز بعد حركة نسائية فاعلة ذات تأثير على الدولة وعلى عملية الإصلاح الدستوري برمته. القطاع العمالي مغيب والنفوذ النقابي لم يعد قويا ومتماسكا.
في إسبانيا, انفرد الملك الشاب خوان كارلوس بوضع حد للحكم الفرانكاوي من خلال إقامة نظام ديمقراطي تدريجيا والتغيير ضمن الاستمرارية وعبر استثمار الظروف الداخلية والإقليمية والدولية المتغيرة. هذا باختصار سر نجاح التجربة الاسبانية وبإمكاننا محاكاة بعض جوانبها. مارس دهاء سياسيا وأظهر درجة عالية من البراغماتية. فور توليه مقاليد السلطة عام 1975 أقسم الولاء لمبادئ حركة فرانكو مع أنه كان يدرك في قرارة نفسه أن عليه خلق توازن بين الوفاء لتلك المبادئ العسكرتالية وبين المضي صوب التغيير لحماية مستقبل بلاده. كان المتوقع إرساء دعائم ملكية تتصف بالسلطوية منفتحة على الأحزاب المعتدلة مع إقصاء الراديكالية كالشيوعيين المحظورين. لكن ما حدث جاء عكس التوقعات.ففي العام التالي, عزل الملك الوزير الأول الموروث عن فرانكو واستبدله بأدلفوا سواريز مدير تلفزة الدولة, الذي لم يكن له أي روابط أيديولوجية أو اهتمام بمصالح الحرس القديم. في السياق قدم ضمانات للقوى المتنفذة ورجال الجيش ما سمح لاحقا بمد جسور الحوار مع المعارضة السياسية من دون إثارة ردة فعل عنيفة تهز السيستم. بعد أن كسب البرلمان إلى جانبه, غير الملك عديد قوانين لكن بالاستناد إلى الشرعية التي وضعها فرانكو. ثم اعترفت الحكومة بالحزب الشيوعي وأعطت حكما ذاتيا لقوميات الباسك والكاتلان لصون وحدة الأراضي الاسبانية. وفي 1978 وضع دستورا جديدا لتقوية المشروعية السياسية المتحققة. فاوض الملك وحكومته بشأن الأسس التي يجب أن تحكم العملية الانتقالية وتحدد أبعادها, ما شجع الطبقة الحاكمة على إدراك المعاني التاريخية والاستراتيجية للتغيير. الجميع قبل تحمل المكاسب والخسائر ودفع ثمن التغيير الذي طالبت به المعارضة. بعد عقود, غدا ملكا لا يحكم; مظلة لحكومات تتغير عبر صناديق الاقتراع بعد فك الاشتباك بين مؤسسات الدولة.
بالتأكيد, الخصوصية الأردنية تختلف. لكن الواضح اليوم أن الملك, بعكس غالبية مراكز القوى المؤثرة, قرّر الاقرار بنقاط الضعف التي اعترت العشرية الأولى من عهده والعمل على استعادة قوة السلطة والمؤسسات في دولة المواطنة والقانون, بعد أن هزّت سلسلة ضربات ثقة المجتمع بالحكومة وأضعفت مفاهيم الانتماء وطغت الإقليمية والعصبية. بات يشعر بمحاولة غالبية المحيطين به البقاء في السلطة عبر التحريض, التخوين وكبت الحريات وإخفاء المعلومات عنه, بحسب ما يرشح.
فهل سيبادر القائد لوضع حد للمعادلة القائمة, وبناء نظام ديمقراطي على نحو تدريجي وآمن أبعد بكثير من إصلاحات تجميلية سعت سابقا لرسم صورة باهتة من الشرعية الديمقراطية?
قد نجد بعض الأجوبة في خطابه الأسبوع المقبل الذي سيعلن فيه موقفه من التعديلات الدستورية المقترحة وملامح خارطة الطريق صوب المستقبل.
في الأثناء ستلقي ثلاثة عوامل رئيسية بظلالها على المرحلة الانتقالية:
- غياب فريق متناغم داخل أجهزة الدولة الرسمية التي أضعفت كثيرا.
- مجلس النواب سيعمل المستحيل لإطالة عمره من خلال إرجاء إقرار القوانين
- هجمة قوى الشد العكسي السياسي والمجتمعي التي تخشى من بعض تعديلات في الدستور تتعلق بالمواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات بما فيها منح المرأة المتزوجة من أجنبي حق نقل الجنسية لأولادها. وإصرار هذه القوى على أن يظل قانون الانتخاب الجديد محكوما بعوامل التمثيل الجغرافي وليس الديمغرافي.
سيظل المشهد السياسي متأزما طالما ظلت هذه التحديات من دون حسم وتضع مصداقية رأس الدولة على المحك في حال استمرت المماطلة في تنفيذ الوعود. والمأمول أن تتعامل الحكومة وسائر أذرع الدولة بطريقة عقلانية مع نافذة فرصة تحصين الأردن عبر تغيير آلية إدارة الدولة, مدعومة بإصرار شخصي من ملك وعد سفراء دول الاتحاد الأوروبي أواخر العام الماضي بأن تكون عشرية عهده الثانية أفضل بكثير من الأولى لجهة تحديث الأردن.
ففي السابق خسرنا الخبر والديمقراطية. وثمة مخاوف من خسارة ما تبقى من الوحدة الوطنية إذا ترك الملك وحيدا يمتطي سرج الإصلاح.0