اخبار البلد
كانَ مِن الطَّبيعي أن تَرفُضَ القِيادة التركيّة عَرضًا حَمَلهُ إليها وَفدٌ من الكونغرس بقِيادَة مايكل تورنر، يَزور أنقرة حاليًّا، ويَتضمَّن استعداد الإدارة الأمريكيّة لتَسليم تُركيا طائِرات "إف 35” مُقابِل تَخلِّيها عن صَفقةِ شِراء صواريخ "إس 400” الروسيّة، لأنّ التَّراجُع عن شِراءِ هَذهِ الصَّواريخ الروسيّة المُتقدِّمة باتَ مُتعَذِّرًا بسَبب دفع ثَمَنِها، وقُرب وُصول الدُّفعَة الأُولى مِنها (أوائِل عام 2019)، ولأنّ تُركيا تسير على خُطَى إيران وباكستان في دُخول غِمار تطوير مَنظومَة صواريخ خاصَّة بِها تُحَقِّق الاكتفاء الذَّاتيّ في مَجالاتِ التَّصنيعِ العَسكريّ.
أكثَر ما يُزعِج واشنطن من صَفقة صواريخ "إس 400” الروسيّة، ليس امتلاك تُركيا التي بَدأت تُدير ظَهرَها لحِلف الناتو والاتِّجاه شَرقًا (إيران والصين والهند) وشَمالاً نحو موسكو، وإنّما أيضًا حُصولها على تِكنولوجيا إنتاج هذا النَّوع من الصَّواريخ في أنقرة.
صفقة المُقايَضة التي حملها وفد الكونغرس إلى تُركيا ليست مُغرِيَةً، وأقَل بكَثير من المَطلوب، فلو عَرَض وفد الكونغرس تسليم الداعية التركي فتح الله غولن المُتَّهَم بالوُقوف خَلف الانقلاب العَسكريّ الأخير (صيف عام 2016)، مُقابِل إلغاء أو تأجيل صفقة صواريخ "إس 400″، ربّما وَجَد هذا العَرض دِراسَةً مُتعَمِّقةً من القِيادةِ التركيّة، لأنّ عدم الاستجابة لطَلبات هَذهِ القِيادة بتَسليمِ هذا الداعية هو أحد أهم أسباب الأزمة الحاليّة في العلاقات الأمريكيّة التُّركيّة.
سِياسَة الغَطرَسة واحتقار الحُلَفاء، خاصَّةً إذا كانوا مُسلمين، التي تتبعها الإدارة الأمريكيّة الحاليّة، إلى جانب الدَّعم المُطلَق لإسرائيل ومشاريعها الاستيطانيّة وتَهويدِها للقُدس المُحتلَّة، كُلّها تُساهِم في انهيار تَحالُفاتِها في أكثَر مِن مَكانٍ في العالم.
الرئيس ترامب يَشُن حَربًا اقتصاديّةً على أكثَرِ من جبهة هَذهِ الأيّام، أبرَزها الجَبهَتين الصينيّة والروسيّة، إلى جانِب العُقوبات على إيران، وربّما قَريبًا على تُركيا ودُوَل في الاتِّحادِ الأُوروبيّ.
تركيا التي باتَت على وَشَك مُغادَرة حِلف الناتو، إبعادًا، أو استقالة، تتَّجِه للدُّخول في تَحالفٍ إقليميٍّ شَرق أوسطيٍّ يَضُم إيران وباكستان، وربّما العِراق وسورية لاحِقًا، وتَطمَح إلى بناءِ مُنشآتٍ ومُفاعِلات لإنتاج أسلحةٍ نوويّةٍ وتَحقيق الرَّدعين النَّوويّ والصَّاروخيّ على غِرار كوريا الشماليّة و”حزب الله” في جنوب لبنان، وإن بدَرَجةٍ أقَل، وستَجِد من إيران وروسيا وباكستان دَعمًا شِبه مُؤكَّد إذا ما سارَت على هذا الطَّريق، وكُل المُؤشِّرات تقول أنّها تَفعَل ذَلِك.
عَرض شِراء طائرات "إف 35” الأمريكيّة لم يَعُد يُشَكِّل ورقة ضَغطٍ على تُركيا، لأنّ البَديل الرُّوسي المُتَمَثِّل في طائِرة "سوخوي 57” المُقاتِلة يبدو جاهِزًا وغَير مُرتَبِط بأيِّ شُروطٍ على غِرار صفقات السِّلاح الأمريكيّة الأُخرَى.
عندما تَتقدَّم دول حليفة لواشنطن مِثل السعوديٍة وتُركيا بطلبات لشِراء صواريخ "إس 400” الروسيّة، وتُدير ظهرها لصَواريخ "الباتريوت” التي تتراجَع كفاءَتها تَدريجيًّا، وتَفْشَل على أكثرِ من جَبهةٍ آخِرُها الجبهة اليمنيّة، فإنّ هذا يعني ضَربةً قَويّةً للصِّناعةِ العَسكريّة الأمريكيّة.
قُلناها ونُكرِّرها، بأنّ مكان تُركيا الحَقيقيّ هو حاضِنَتها الشَّرقيّة الإسلاميّة، والشماليّة الروسيّة، وفَك الارتباط جُزئيًّا أو كُلِّيًّا مع الوِلايات المتحدة وحِلف الناتو، خاصَّةً بعد أن تَعرَّضت لعمليّةِ ابتزازٍ كُبرَى وحَربًا اقتصاديٍة تَمثَّلت في تَقْويضِ سِعر العُملة الرسميّة (اللَّيرة)، فَلَم يُورِّط تركيا في الحَرب السوريّة غير الإدارة الأمريكيّة وشُركائِها في حِلف الناتو، وبعض الدُّوَل الخليجيّة، واللَّافِت أنّ جميع هَؤلاء تَخلَّوا عنها، وانقَلبوا ضِدَّها، فهَل نَشْهَد "مُراجَعاتً” تُركيّةً قَريبًا في هذا المِضمار؟