المتهم الاول : تمام يا افندم


لا شك بأن الفضول سيطر امس على كل من تابع محكمة رئيس مصر المخلوع لرؤية وجهه وهو ممدد على سريره خلف قضبان قفص الاتهام, في محاولة لقراءة تعابيره وتخَيُّل مشاعره وهو في هذه الحال.

لقد كان على مدى 30 عاماً السيد المُطاع, والحاكم الأبدي الذي تتجسد فيه مقولة (وحدي انا الدولة). غير ان الشعوب (غدارة), فالرئيس الذي كانت صوره تملأ الميادين وعلى كل حائط في ريف ومدن مصر هذه الشعوب كشفت عن حقيقتها, فهي تكرهه وتحقد عليه وتسعى الى الانتقام من عائلته وكل من تعاون معه. اكثر من هذا, فإن الاكتشاف الاكبر هو السذاجة المفرطة التي سيطرت على عقل الديكتاتور عندما اعتقد بأن الاستهتار بالشعوب والاستخفاف بارادتها ومعاملتها كالحيوانات سيمنحه حكما مطلقا.

الدرس الكبير الذي تقدمه مصر الثورة للعالم العربي في هذه الايام, اكبر واعظم من اهراماتها ومن نهر النيل, وهو ان الديمقراطية والحرية ضرورة للحكام مثلما هي مسألة حياة وكرامة للشعوب ولهذا الدرس شواهد كثيرة تقدّم العبرة لمن يعتبر..

تذكر الحكاية عن محمد حسني مبارك انه عندما استدعاه مكتب الرئيس السابق انور السادات الى القصر الرئاسي استعرض جميع الاحتمالات التي تقف وراء استدعائه, فكان افضل توقعاته ان يوافق السادات على طلبه بأن يعينه محافظا لسيناء, غير انه ومن سوء حظه - بالحكم على حياته من خواتيهما - أُبلغ بانه عين نائبا للرئيس المصري.

وتخيلوا لو ان هذا الرجل الذي خدمه الحظ آنذاك - بعد حادثة اغتيال السادات - إذ أصبح رئيسا لمصر, قد قرر ان يُدخل بلاده الى الديمقراطية من اوسع ابوابها, واعلن بأنه سيخوض انتخابات حرة تنافسية للفوز بمنصب الرئاسة, فإذا نجح استمر حتى نهاية ولايته ثم يغادر, واذا فشل حمل نفسه الى منزله وتقاعد, لو فعل ذلك لكان خسر الولاء المزيف له بوضع صوره على كل حائط في الميادين لكنه سيكسب ما هو اكبر واكثر دواما وهي المحبة في قلوب وذاكرة المصريين.

نعم, النظام الديمقراطي الذي يجعل من الحرية والكرامة وحقوق الانسان فضائل ترقى الى مصاف المقدسات, وحده من يقدم الضمانة الكبرى للحكام قبل المحكومين في العيش بأمان والوصول الى النهايات الطبيعية في الحياة الانسانية. وعلى حد تعبير رئيس برازيلي سابق اراد تعريف الديمقراطية فقال: "انها ذلك النظام الذي يسمح للحاكم ان يطوي ملابسه في حقيبته ويغادر قصر الرئاسة الى بيته في سلام وترحيب. وهذا امتياز لا تقدمه الديكتاتوريات للمعارضين ولا للحكام".

الواقع ان الحكام العرب - الذين انفجرت صيحات الحرية في شوارع المدن والقرى وعلى اسطح المنازل - يثيرون الشفقة وهم يلوثون ايديهم بدماء شعوبهم لأن مصيرهم بات معروفاً. انه مصير رئيس مصر الذي حَكَم لثلاثة عقود كفرعون جديد, انهم مثله سيجلسون خلف القضبان بلا حول ولا قوة, وفي جحور الخوف والرعب لا يملكون غير قرار الهروب الى الامام, بمواصلة القمع وبكل وحشية ضد شعوبهم العزلاء الا من حناجرها. لكنهم يهربون من دون حقائب الى اقفاص العار ولعنة الزمان.

امس دوى صوت القاضي في المحاكمة التاريخية وهو ينادي على المتهم الاول باسمه محمد حسني مبارك, فيجيب: "تمام يا افندم", هذا المشهد اختزل عذابات شعب مصر بالانتصار على الدكتاتورية واعادة الاعتبار لمبدأ (الامة مصدر السلطات).


taher.odwan@alarabalyawm.net