ما بين الدين والثقافة



تحتاج مسألة العلاقة بين الدين والفضاء العام إلى استيعاب أكثر وضوحا وعمقا من الخيارين السائدين والمتجادلين في فضائنا العام، وهما الدور المقدس للدين في الفضاء العام (الدولة الدينية و/أو ولاية الفقيه) والفصل بين الدين والدولة أو استقلالهما عن بعضهما بعضا (المقصود بالدولة هنا الفضاء العام أو الحياة العامة بشموليتها وكل مجالاتها التي تتعدى الفرد)، لكن يجب التأكيد أن المشتغلين بمسألة الدين والفضاء العام من كل اتجاه أو فلسفة يجمعون على أن التطبيقات المستمدة من الدين أو المتأثرة به في مجال الحياة العامة التي تتعدى الفرد ليست دينا بالمعنى الأصلي أو النقي للدين، لكنها تطبيقات إنسانية مستمدة من الدين، وهي في ذلك ليست مقدسة مثل الممارسات الدينية النقية كالصلاة والدعاء والحج، على سبيل المثال، لكن الإقرار بإنسانية أو عقلانية التطبيقات الحياتية العامة المستمدة من الدين لا يعني أنها متقبلة بالضرورة دينيا أو ثقافيا أو سياسيا، .. وهذا هو الطريق الثالث في الجدل والأكثر تعقيدا وعمقا، .. أو ما صار يسمى في الغرب اليوم "ما بعد العلمانية".

في كتابه "الدين: الأسس"، يعرض مالوري ناي المكونات الرئيسية للدين بالنظر إليه منظومة ثقافية، ويجد أن مصطلح الدين غامض وذو معان ودلالات واسعة، ويشير التحديد إلى تعاليم دينية محددة، وجانب من السلوك البشري، ويفترض دائما أنه عام وشامل. ويعد الدين جزءا من الحياة اليومية وجانبا من جوانب الثقافة.

ويشتمل الدين على رموز وأفعال (طقوس وممارسات) وإطار مفاهيمي للإيمان والمعرفة، وجميعها تشكل نظاما ثقافيا من شأنه أن يؤثر بقوة في رؤية الإنسان وحياته وعالمه الخاص. لكن هناك فرق بين الدين والثقافة، فالدين يعد في حالته النقية الأصلية أكبر من قدرات الإنسان لكن الثقافة من صنع الإنسان، والدراسة الأكاديمية للدين ليست معنية ولا تستطيع أيضا تأكيد أو دحض هذه المزاعم، وبدلا من ذلك تحلل الثقافات والأديان بوصفها من مظاهر حياة الإنسان. ويشير مصطلح ثقافة عادة إلى المنتجات الثقافية؛ أي ما يقدمه البشر من أدب وفن وموسيقى، وأسلوب الحياة.

يقول القس ديزموند توتو رئيس الكنيسة الإنجيلية في جنوب أفريقيا والحائز على جائزة نوبل 1984: إذا اقترح أحد أنه لا توجد علاقة بين الدين والسياسة فإنه يقرأ في إنجيل مختلف عن إنجيلي. ويقول ماركس: الدين آهة المقموع، وقلب عالم متحجر العاطفة. فالدين ليس السبب الفعلي للمعاناة الاقتصادية والاجتماعية، وليس ضارا بذاته، لكن تستخدمه الطبقة الحاكمة للتعمية على جذور المشكلات النابعة من عدم المساواة السياسية والاقتصادية. وبالنسبة لغرامشي، فإنه يرى الدين أداة الطبقة السائدة لجعل الإذعان لها أمرا مقبولا وجزءا من الحياة اليومية والثقافية. وبالنسبة لـ التوسير المفكر الفرنسي الماركسي، فإن الأيديولوجيا هي وسيلة لرؤية الحقائق الأخرى؛ أي أنه وهم مضلل بالرغم من أنها تشير ضمنيا إلى الحقيقة.

إن حقيقة أن دولا كثيرة أنشأت كنائس لتتحد مع إدارة الدولة (مثل بريطانيا) توضح كيف أن الكنائس تستطيع أن توفر بعض الأدوات الأيديولوجية التي يمكن من خلالها إضفاء الشرعية على السلطة، وهناك أمثلة كاثوليكية توضح كيف كانت الكنائس أداة الدولة القمعية وأنها كانت أداة لتنفيذ القانون. هكذا حسب ألتوسير فإن المقموعين تمنحهم الأيديولوجيا شعورا بالحرية من دون أن تحررهم بالفعل، ويسلكون في الإذعان بحريتهم ووعيهم وإرادتهم كتابعين. إنهم يعتقدون أنهم أحرار لكنهم في الواقع سجناء أيديولوجيا تشعرهم بأنهم أحرار.