في "الفزعات" السياسية لمحاربة الفساد



على سيرة "الفزعة” الحالية في موضوع محاربة الفساد، أستعيد ما كتبته في "سي ان ان” قبل سنوات، ولو أردت الكتابة الآن عن الموضوع لكنت أعيد الصياغة فقط، محافظاً على المضمون نفسه، ولهذا أعيد نشره!
أسعدني حظّي، مرّة، بحضور الاجتماعات المغلقة لأوّل مؤتمر للأطراف المصادقة على الاتفاقية الدولية لمحاربة الفساد، ولن أنسى كيف أنّ الوفود الحكومية العربية هي التي كانت تقف حجر عثرة أمام أيّ تقدّم حقيقي، وبدا وكأنّها قد نسّقت عملها مسبقاً، خروجاً على مبدأ مستقر، مكرّس، مفاده أنّ العرب يتفقون دائماً على الاختلاف.
على الجانب الآخر من المركز الضخم، كان هناك مؤتمر دولي مواز للمنظمات غير الحكومية، وكنتُ أحضره أيضاً، يهدف إلى الضغط على الحكومات، فيتابع ما يجري خلف الأبواب المغلقة، ويُصدر بيانات تحاول التأثير في القرارات، وهنا كانت المصيبة العربية أكبر، فعلى الرغم من أنّ الدعوات وُجّهت لأغلب المنظمات المعنية: لم يحضر أحد!
العرب أكثر من يتحدثون عن الفساد، ويلعنونه في شعاراتهم، وتمتلئ صحفهم بانتقاده، ولكنّهم أبعد الأمم عن مواجهته، ويدلّ على ذلك كلّ التقارير الدولية المُصدّقة، فأفضل الدول العربية في المقاييس العالمية يحتل مكاناً متأخراً بين الدول، أمّا أسوأها فيحتل المكان الأخير، والغريب أنّ دولة عربية ما قد تحلّ في المكان الخمسين بين مئتي دولة، يمكنها أن تكون الأولى عربياً، والغريب أكثر أنّها تحتفل بذلك، وتعلن أنّها "تتصدّر" العرب في مواجهتهم الفساد، وذلك ينسحب على المراكز الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، أمّا في ما بعد ذلك من دول عربية، فيتمّ تجاهل التقرير من أساسه.
ذلك مشهد قد يبدو "سريالياً" عبثياً، ولكنّه حقيقي، ويتكرر في كل سنة عدة مرات، ويؤكد أنّ المسألة لا تعدو كونها تجميلية، ديكورية، عند الحكومات، وشِعاريّة عند قوى المجتمع المدني، فالأولى تبحث عن قبول مواطنيها، والقوى الفاعلة دولياً، ولو بشكل مؤقت، والثانية تحاول تحقيق هدفها بإحراج الحكومات، وتحقيق رضا الناس، وفي الحالتين فالمسألة سياسية، لا أكثر ولا أقلّ.
السياسة، عندنا، في كلّ الدول العربية، تتحكّم في محاربة الفساد، وهذا ما يُحجّمها، ويجعلها مجرّد عنوان لمضمون ضائع، وأغلب حالات الفساد الكبيرة المحوّلة للمحاكم سياسية بامتياز، فهي موجهة إمّا لسياسي مُعارض لجهة سياسية حاكمة، أو لشركة تورّطت في صراع سياسي محليّ، أو لمسؤول سابق أطاحت به وبجماعته التغيّرات، أو هي ملف جاهز يُلوّح به ضد سياسيين أو اقتصاديين أو مسؤولين، يمكن استخدامه، أو تأجيله، أو حتى إغلاقه، حسب الطلب.
وهذه هي الانتقائية التي تتنافى مع أساسيات الشفافية، وقد تُطرب الناس لأيام أو أسابيع، وتجعلهم يُصدّقون بجدية مواجهة الفساد، ولكنّ الأمور ستتكشّف بعد حين، وحينها سيأتي المردود العكسي، وهذا ما حصل في غير دولة عربية، لتأتي النتيجة المحتومة: غيابنا عن توق المواطنين لإعادة إنتاج النظم السياسية في ما يسمّى بالربيع العربي، وابتعادنا عن التوجّه العالمي الذي تكرّس من خلال اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد.
في يوم اجتمعنا في قاعة، ممثلين لتسع منظمات غير حكومية تمثّل تسع دول عربية، نؤسس لعمل مُشترك يُعنى بمحاربة الفساد، وبدأنا بتعريف كلّ واحد منّا على المشاكل الرئيسية في بلده، لنكتشف أنّنا نتحدث عن قضية واحدة، تكاد تتطابق في كل تفاصيلها، واستبشرنا خيراً باعتبارنا سنعمل بروح واحدة، ومع وضعنا الخطوط الأساسية بدأنا بالاختلاف، وحين وصلنا إلى المنهجية اختلفنا أكثر، ولمّا صار علينا أن نوزّع الأدوار اختلفنا أكثر وأكثر، أمّا مع التنفيذ فكدنا أن نتناحر، وحين وصلنا إلى النتيجة النهائية افترقنا!
قد يبدو ذلك المشهد الذي استغرق سنتين "سريالياً"، عبثياً، مع أنّه صُرف عليه مليون ونصف المليون من الدولارات من مؤسسة أجنبية مانحة، وسافرنا فيه مرات ومرات، وجمعتنا العشرات من اللقاءات، والنتيجة التي وصلنا إليها: كتاب مطبوع بورق فاخر، لا يُقدّم سوى الشعارات والعناوين والمضامين الفارغة، ولم يوزّع إلاّ على العشرات مع أنّه طُبعت منه آلاف النسخ، وقد حمل عنوان: "المرجعية العربية لمحاربة الفساد"!
نقترب من ذلك اليوم الاحتفالي بمحاربة الفساد، وسوف تتكرر تلك المشاهد، في كل الدول العربية، حيث عشرات المؤتمرات الوطنية والصحفية، والمنتديات، وآلاف المقالات، ولكن نظرة موضوعية للأمور ستؤكد لنا أنّنا نخطو واحدة للأمام وأخرى للخلف: مكانك سر هو الحقيقة الوحيدة القائمة، حتى إشعار آخر.