الخلفية السياسية لحركات الاحتجاج في جنوب العراق

اخبار البلد 

 

بدأ الهدوء الحذر يزحف ببطء إلى مدن جنوب العراق المحتجة منذ 13 تموز/يوليو الجاري، فقد أجريت العديد من الاتصالات بين حكومة البصرة المحلية وممثلين عن الحكومة المركزية مع جهات ادعت تمثيل المتظاهرين السلميين. وكان أبرز من تصدوا للحديث باسم حركات الاحتجاج وجوه عشائرية، دعت للتهدئة ومنح الحكومة فرصة تنفيذ ما وعدت المتظاهرين به.
وكما انتشرت شرارة التصعيد من البصرة، تنطلق اليوم موجة التهدئة منها إلى بقية محافظات الجنوب والوسط. فما الذي حدث؟ وما هي الخلفية السياسية للحراك الشعبي الذي اندلع عنيفا وجعل رموزا كبيرة في الحكومة تهرول باتجاه الاعتراف بالتقصير والاعتذار عنه ومحاولة طرح حلول حتى وإن وصفها البعض بالترقيعية؟
أعلنت وزارة الصحة العراقية ارتفاع عدد الضحايا الذين سقطوا خلال الاحتجاجات المستمرة منذ 13 تموز/يوليو الجاري في جنوب العراق إلى 8 قتلى، و60 مصابا. في حين تعهدت الحكومة بالسعي ‏لتحسين الخدمات. وقال المتحدث باسم وزارة الصحة العراقية، سيف البدر، في مؤتمر صحافي، إن الاحتجاجات خلفت، ‏منذ بدايتها حتى موعد الإعلان ثماني وفيات توزعت كالتالي: قتيلان في البصرة، ومثلهما في النجف، وثلاثة ‏في السماوة، وواحد في كربلاء. وأضاف أن أكثر من 90 في المئة ‏من الجرحى إصاباتهم طفيفة، وهناك 56 مصابا في المستشفيات، حالة 7 منهم خطرة ويتلقون العلاج ‏اللازم ‎. ولم تتطرق الجهات الرسمية إلى حملات الاعتقالات التي طالت ناشطين مدنيين، إلا ان وسائل التواصل الاجتماعي التي حجبت نتيجة قطع خدمة الانترنت في العراق بأمر حكومي ‏ثم عاد العمل بها بشكل متقطع، أعلن من خلالها الناشطون أسماء عشرات المعتقلين الذين لم يتسن التأكد من صحة معلومات اعتقالهم من جهة رسمية حتى الآن.

حراك غير مسيس

يعلم المراقبون بشكل جلي ان الحراك الذي اندلع في تموز/يوليو الجاري كان نوعا من الصرخة التي أطلقها مواطنون بسطاء ليس لهم انتماء أو لون سياسي، لذلك يمكن القول انه حراك رجل الشارع العادي الذي لم يعد يحتمل المستويات المتدنية من سوء الخدمات والأمن والتردي الاقتصادي في مدينة البصرة، حيث انطلقت الشرارة الأولى للحراك في مدينة تنام على بحر من الثروات التي يعتاش عليها العراق، دون ان تحصل على الحد الأدنى من مستلزمات العيش الآدمي. وعندما امتدت شرارة الاحتجاج إلى مدن الجنوب والوسط، ظهر ان العنف الشعبي ومنذ اللحظات الأولى كان موجها إلى مقار ورموز أحزاب السلطة التي يتهمها الشارع بالفساد والنهب والتدمير المتعمد للعراق.
ولم يحصل، كما حدث في الهبات الاحتجاجية السابقة، أي تأطير سياسي أو طائفي أو قومي مبكر لهذا الحراك، كما حدث في احتجاجات 2011 في بغداد وفي المحافظات السنية ‏في 2012 أو في العديد من مدن العراق عام 2015. فقد نزل في الاحتجاجات السابقة جمهور من المطالبين بإصلاح الخدمات، لكن سرعان ما كانت قوى سياسية تقدم نفسها واجهة لهذه المطالب وتدخل على خط التفاوض مع الحكومة باسم المحتجين، وفي حالات قليلة كما حصل في احتجاجات 2015 تم تشكيل تنسيقيات للحراك المدني للتحدث باسمه، لكنها سرعان ما ابتلعت نتيجة تحرك التيار الصدري الذي جير حركة الاحتجاج لصالحه وأصبح المتحدث الرسمي باسمها مع الإشارة إلى وجود حلفاء مدنيين.
ويظهر الآن ان وجوها عشائرية ومناطقية تحاول ان تنصب نفسها متحدثا باسم الحراك دون ان يعلم أحد مدى قدرتها على ذلك. وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن ان نقرأ ضمن هذا الإطار تصريح الشيخ مزاحم الكنعان التميمي الذي يصف نفسه برئيس عموم عشائر بني تميم في العراق، وهو شيخ قبلي وضابط سابق في القوة البحرية إبان حكم نظام صدام ، متقاعد من الخدمة في الجيش، وقد أصدر بيانا على صفحته على فيسبوك قال فيه «أيها الأخوة، الآن وقد تمكنا من إيصال رسالتنا واضحة إلى الحكومة المركزية والمحلية وجميع الأطراف والقوى ‏السياسية، وبعد أن كشفنا الظلم والحيف الذي أصابنا، ولإتاحة الفرصة للحكومتين المحلية والمركزية في ‏تنفيذ ما وعدونا به من مطاليب عادلة ورغبةً منا في أن يعود الهدوء إلى مجتمعنا والسماح لدوائر ‏الدولة للقيام بواجباتها في تقديم الخدمات إلى المواطنين، قررنا وبإرادةٍ حرةٍ مستقلة وقفَ جميعِ أشكال ‏التظاهر والاحتجاج في جميع أنحاء البصرة لمدة عشرة أيام نتابع خلالها خطوات تنفيذ مطالبنا ‏المشروعة».

اسطوانة المندسين المشروخة

وكما هو متوقع، سارعت أحزاب السلطة إلى توزيع التهم الجاهزة، فالمتظاهرون مجموعة من البعثيين أو الدواعش أو المندسين الذين غرروا بالبسطاء وأخرجوهم في مظاهرات ليستغلها المخربون ويدمروا المنشآت والمؤسسات العامة، وقد تجرأت بعض الأقلام المأجورة مما بات يعرف بالجيوش الالكترونية لأحزاب السلطة بأن أطلقت حملات مسعورة لاتهام حركات الاحتجاج بانها موجة نهب «حواسم» جديدة. ومع ان الاتهامات باتت اسطوانة مشروخة وملها الشارع حتى باتت نكتة سمجة. إلا اننا يجب ان نؤشر إلى وجود من يصطاد في الماء العكر من أعداء العملية السياسية، ففي الإمكان الاطلاع على مواقع رسمية وقنوات إعلامية لحزب البعث العراقي المنحل وهي تنشر المعلومات وتتبنى مطالب المتظاهرين، وطبعا هذا التحرك ليس حبا بالشعب الذي كانوا يقتلونه بالعنف نفسه إبان حكم النظام السابق، انما كرها بالنظام الذي حكم منذ إطاحة نظام صدام عام 2003 حتى الآن.

أحزاب الانتخابات

من الملاحظ ان كل أحزاب العملية السياسية تصرفت بحذر تجاه حركات الاحتجاج، وكانت التصريحات متراوحة بين تأييد خجول وموافقة على مطالب المتظاهرين، مرورا بسكوت البعض وانتظار ما ستسفر عنه حركة الاحتجاجات، وصولا إلى من يمتلك الميليشيات ممن وقف موقفا معاديا واضحا ومهددا المحتجين الذين اتهموا بأنهم ينفذون أجندات مشروع صهيوأمريكي.
وبما ان حركات الاحتجاج تمت في المدن ذات الأغلبية الشيعية، لذلك لم نجد أي صدى أو موقف من الكتل السياسية السنية أو الكردية، وهذا ما بات يحدث على مستوى العراق منذ أكثر من عقد من الزمان، فحركات الاحتجاج في المحافظات السنية عام 2012 والتي عرفت إعلاميا بساحات الاعتصام حينها، ابتدأت بحركات مطلبية أهملتها حكومة بغداد وحاصرتها لتتحول إلى نقطة جذب لكل القوى الراديكالية والإرهابية ولتعتلي منصاتها رايات تنظيم القاعدة ولتصدح المكبرات بشعارات القاعدة وتنظيم «الـــدولة» لتتحول إلى بؤر سرطانية إرهابية قادت إلى كارثة سقوط تلك المدن بيد تنظيم «داعش» عام 2014.
كما ان الشارع الكردي يغلي بمطالب معاشية واقتصادية وخدمية ويخرج منذ سنوات صارخا في وجه فساد حكومة الإقليم والأحزاب الكردية التي تحولت إلى اقطاعيات عائلية تنهب ثروات الإقليم، كذلك لم يجد هذا الحراك تضامنا من بقية الكتل السياسية. ان النشطاء الكرد يعتقلون ويعذبون واغتيالات الصحافيين الذين كشفوا فساد الأحزاب الكردية سمع بها كل العالم إلا الداخل العراقي، وكل ذلك نتيجة نظام التخادم والاستزلام الذي يعيشه البلد تحت حكم طغمة فاسدة توزع المغانم فيما بينها. وربما بات السياسيون ينظرون لهذا الأمر بارتياح نتيجة أضعافه الشركاء في العملية السياسية.‏
وأما صرخات البعض ممن لا تعرف نواياهم الحقيقية المطالبة بتشكيل حكومة إنقاذ وطني لا يعرف أحد كنهها وكيفية تشكيلها، فقد تعالت بوجهها صرخات مضادة تطالب بالإسراع في عمليات العد والفرز اليدوية لنتائج الانتخابات لتنتقل الكتل إلى تفعيل دور البرلمان الجديد وتشكيل الحكومة، عبر الكتلة الأكبر في البرلمان، ومع هذا الحراك بدأ شكل العملية السياسية يمثل نوعا من الانتهازية التي لا تعير آلام الناس اهتماما وتركز اهتمامها في تشكيل الحكومة لتحصل على مصالحها الخاصة فقط.

موقف المرجعية الملتبس

وبما ان النجف وكربلاء، شهدت حراكا احتجاجيا شكل رعبا لبعض أحزاب الحكومة، فقد خرجت تصريحات المرجعية الدينية على لسان خطباء الجمعة في المدينتين باهتة، لا طعم لها، فهي تساند مطالب المحتجين وتطلب من الحكومة الاستماع لها، وتطلب من المحتجين الامتناع عن التخريب وعدم الاعتداء على الأملاك العامة والخاصة. وبذلك أخذت المرجعية دور المتفرج الجالس على التل الذي قال كلمته الحكيمة وهو في انتظار ما ستسفر عنه نتائج الحراك، حتى بات رجل الشارع الشيعي في حيرة من أمره، وفي أمر مرجعية النجف التي تأرجحت بين دور الولي الفقيه الذي يأمر فيطاع من كل الطبقة السياسية أحيانا، وبين المرجع الذي لا يسمع له رأي أحيانا أخرى، بل تتصرف الأحزاب وميليشياتها تبعا لأوامر مرجعيات إيران، لنرى مرجعية النجف في هذه الحالات عادت إلى دورها التقليدي المنادي بعدم التدخل في الشأن السياسي والاقتصار على دور الموجه في اختيار الناس لأمور دينهم بما يرونه مناسبا لهم.
بدأ الحراك الاحتجاجي يأخذ منحى التهدئة، فهل حقق الغايات المنشودة منه في الضغط على الحكومات المحلية والمركزية لتقديم الحد الأدنى من الخدمات؟ أم سنشهد موجة احتجاجات في الأيام المقبلة نتيجة تملص الحكومة من وعودها؟