الشرطة في خدمة الشعب?
اخبار البلد- - رنا الصباغ -قبل نحو عامين, اختير العسكري-الدبلوماسي-السياسي الفريق حسين المجالي, على رأس الأمن العام وأنيطت به مهمة تحديث جهاز مؤتمن على حفظ السلم المجتمعي عقب سلسلة هزات كادت أن تفقدها ثقة المواطن.
الفريق المجالي (51 عاما), الذي قاد لسنوات مجموعة الأمن النخبوية الخاصة بالملك الراحل الحسين بن طلال حتى عام ,1999 يواجه مهامه الجديدة بقدر عال من المسؤولية.
أصغر أبناء الشهيد هزاع المجالي, الذي اغتيل في مقر حكومته عام 1960 بتدبير من المكتب الثاني السوري بقيادة عبد الحميد سراج في غمرة الوحدة المصرية-السورية, ضخ دماء جديدة في عروق الأمن. واسترجع بعضا من هيبة الشرطة التي تراجعت في الشارع كما انفتح على الإعلام بروح المكاشفة. شرع أيضا في تطهير بؤر أمنية قرب العاصمة كانت عصيّة على الاختراق وشكلت مسرحا لنشاط عصابات تهريب مخدرات وسرقة سيارات وسط تفشي الوساطة والمحسوبية داخل أجهزة الدولة.
لكن بين ليلة وضحاها, هبّت عواصف التغيير على حكام العرب ووضعت الفريق المجالي وجهازه على المحك بعد أن كسر الشارع العربي عقدة الخوف من دون رجعة وشرع يطالب بالكرامة, العدالة ومكافحة الفاسدين. وتحول التعامل مع الاحتجاجات إلى القاعدة وتراجعت المهام الشرطية الأصلية إلى استثناء ما أنهك عناصر الجهاز ووضعهم تحت ضغوط نفسية غير متوقعة فاقمها إلغاء إجازاتهم.
مع ذلك ظل الأردن متميزا في التعاطي مع غضب الشارع. بعكس تونس, مصر ودول أخرى قرّر الملك عبد الله الثاني صوغ استراتيجية أمنية متطورة للتعامل مع المحتجين, ساعدت على تمييز الأردن عن سائر دول المنطقة. وهكذا وفّر رجال الشرطة, دون أسلحة وتروس, الحماية للمتظاهرين الذين رفعوا مئات الشعارات غالبيتها صبّت في المطالبة بتحسين ظروف المعيشة الصعبة, إصلاح النظام ومحاكمة رموز الفساد.
وفي الوقت الذي أمطر الأمن المتظاهرين رصاصا وقمعا في عواصم شقيقة, وزّع رجال الشرطة الأردنية العصائر وعبوات المياه على المتظاهرين عقب كل صلاة جمعة.
على أن تواصل الاحتجاج في جمع الغضب أنهك جهاز الأمن العام المستنفر منذ 28 أسبوعا وحمّله تكاليف إضافية غير متوقعة لتغطية طوارئ حفظ الأمن, وصلت أيام الجمع إلى 21 مليون دينار بين توفير آليات, محروقات, اتصالات, مياه الخ, على ما يرشح من عمليات الأمن.
نجح الجهاز في الظهور على مسافة واحدة من جميع الأردنيين خلال أكثر من 2400 مسيرة جابت شوارع المملكة. وأثنت الدول الغربية على جهد الرسميين لسماحهم بحق الشعب في التعبير عن آرائه والاحتجاج بوسائل سلمية.
لكن حال الصفاء الأمني- المجتمعي هذا تلقىّ ثلاث ضربات موجعة بعد دخول جهات متنفذة على الخط, لأنها بدأت تخشى على ما يبدو فقدان نفوذها وصلاحياتها.
وربما لم يعجبها أيضا تزايد نفوذ الفريق المجالي داخل المؤسسة الأمنية مدعوما بإرث عائلته السياسي, فضلا عن قربه من صاحب القرار فسعت لضرب مصداقيته من خلال افتعال ثلاث مواجهات في الشارع في ثلاثة شهور, ما قد يؤثر على رصيده الايجابي. أطلقت هذه الجهات حملة منظمة, مدعومة ببعض وسائل الإعلام, لتغذية المشاعر الإقليمية البغيضة بأشكالها كافة. لجأت لحشد بلطجيتها ضد المحتجين وقسّمت الشعب إلى مع وضد, مستغلين قيام المعارضة بقيادة الإسلاميين بشيطنة الحكومة وبالعكس, وسط توقعات بأن يركب الإسلاميون موجة ربيع العرب.
في المرة الأولى, تسلّل "بلطجية" إلى حشود المعتصمين وسط البلد وضربوا بعضهم ثم لاذوا بالفرار. ولم يعتقل أو يحاسب أي منهم لغاية اليوم مع أن الأمن العام شكّّل لجنة تحقيق.
ثم جاءت مصادمات الجمعة الحزينة على دوار الداخلية بين جماعة "24 آذار" المطالبة بإصلاح النظام وحشود "نداء الوطن", بعد أن انسحبت الشرطة ودخلت قوات الدرك لفض الاعتصام بالقوة. وأخيرا أجهض البلطجية محاولة تنظيم اعتصام مفتوح في ساحة النخيل في معمعة دفع ثمنها الصحافيون والمؤسسة الأمنية, التي استخدم رجالها المناقل, خشب الطوبار وأسياخ اللحمة لتفريق المتظاهرين ووأد ما أسمته المؤسسة الرسمية "جمعة الفتنة".
تلك المواجهات شوهت الصورة المشرقة التي ميزت مكونات الدولة الرسمية والشعبية منذ بدء الاعتصامات كما أثرت على سمعة الأردن في الخارج. وهزت في السياق الصورة التقدمية التي رسمها المجالي لنفسه كرجل منضبط عسكريا ومنفتح سياسيا.
المجالي, الذي ترقّى من رتبة لواء إلى فريق قبل سبعة أشهر, أقسم بشرفه العسكري في أكثر من مناسبة, انه مستعد لدفع ثمن تصرفات بعض عناصر الأمن الذين قرروا التصرف بمفردهم. (المعلومات المتوفرة تشير أنه قدم استقالته لرئيس الوزراء غداة موقعة ساحة النخيل لكن معروف البخيت رفضها).
وبدأت أصوات مؤثرة تطرح تساؤلات حول احتمال وجود مناكفات داخل أجهزة الدولة الأمنية? و هل غير الفريق المجالي استراتيجية التعامل مع المسيرات بحضارية المعتمدة منذ سبعة شهور. وبما أن الشرطة تتبع اسميا لوزارة الداخلية, مؤسسة سيادية وجزء من مجلس الوزراء صاحب الولاية العامة في الدولة, فإن عدم تدخلها لوقف ظاهرة البلطجة أو السماح لهم بأن يكونوا جزءا من أدوات الدولة لقمع المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية يولد انطباعا بأن المشاحنات الأخيرة تندرج ضمن إستراتيجية شرطية جديدة.
وثمة أسئلة معلقة تتعلق بالأسباب التي دفعت أفراد أمن إلى نكث اتفاق مع نقابة الصحافيين يضمن توفير حماية كاملة للإعلاميين في الميدان عبر تمييزهم ببزّات برتقالية اللون? وأيضا الأسباب التي قد تدفع متنفذين إلى تحريض الشرطة على اتخاذ موقف مع طرف ضد الآخر ومخالفة أوامر بعدم التدخل لفض اعتصام ساحة النخيل?
يفضل الكثير منا أن لا يعود الأمن العام إلى أسلوب التعامل مع الشارع كما كان الحال عليه قبل ربيع العرب, حينما استخدمت القوة المفرطة في حالات عديدة, ما اضطر الجهاز إلى أخذ عطوة من عائلات كان أبناؤها ضحايا تصرفات بعض الشرطيين الذين خرجوا عن سياق المنظومة وأخلاقياتها.
فمصداقية الأمن والحكومة خلفه على المحك مرة اخرى. والمطلوب اليوم تأهيل الأمن العام لمأسسة الضبط والربط, ليس فقط التعامل مع المتظاهرين لكن أيضا مع مفهوم الأمن الوطني ككل بما يكرس مقولة الشرطة في خدمة الشعب.
لسنا بحاجة لنقل تجارب الأمن السيئة مع المتظاهرين في دول الجوار. ويعلم القاصي والداني بأن النظام الملكي في الأردن يتمتع بشرعية سياسية ودينية, وينظر إليه على أنه مظلة لجميع الأردنيين من شتى الأصول والمنابت.
فالشرطة موجودة لخدمة المواطن والمحافظة على السلم المجتمعي ولا بد من إعداد دراسة حول العمل الشرطي في حفظ أمن الناس. ويؤمل تحرك المؤسسات الرسمية بتجانس لوقف الشحن المجتمعي وأن تعقّل المعارضة من خطابها وتصرفاتها لمساعدة الأردن على التحول صوب الديمقراطية بصورة سلمية. والأهم إحجام جهات متنفذة عن محاولة تعزيز مفهوم "بلطجية الدولة" ضد المتظاهرين وضد صحافي الوكالات الأجنبية ومصوري شبكات التلفزة على شاكلة "شبيحة الدولة" في سورية. فأعمال البلطجة السياسية ليست بريئة في دولة تفتخر بأنها قائمة على أسس القانون والمؤسسات. والعقل المدبر لمثل هذه الممارسات ليس له نية سليمة للوطن مهما كان. وعلى المؤسسات الأمنية كافة أن تتفهم متطلبات مرحلة الربيع العربي.
من جهته, يصر الفريق المجالي لمحدثيه على أن الأمن العام للجميع وأنه لم يطرأ أي تغيير على استراتيجيته في التعامل مع المتظاهرين بدليل أن المسيرات تواصلت أكثر من خمس ساعات بعد مواجهات ساحة النخيل التي دامت ثلاث دقائق. كما أنه لغاية اليوم لم تزهق أرواح مع عدم التقليل من أوجاع المتظاهرين الذين تعرضوا لتكسير وضرب مبرح وأيضا معاناة بعض الشرطيين العزل.
المخرج من هذا المأزق يكمن في إجراء تحقيق بيد جهات مستقلة عما حصل في المرات الثلاث. وهذا يخدم المؤسسة الأمنية ذلك أنها معنية بالخروج من لعبة الاعتداء خلال المواجهات, ثم الاعتذار للجرحى, وزيارتهم في المستشفيات, في سيناريو يبدو أنه متفق عليه.0