السلطة وإنشاء الحقيقة


"السلطة تسود كل مكان ليس لأنها تشمل كل شيء، لكن لأنها تنبعث من كل مكان" ميشيل فوك.

تمثل الموبايلات الذكية والطابعات ثلاثية الأبعاد وما صاحبهما فورا وتلقائيا من صعود كبير ومؤثر للفردانية تحديا كبيرا للسلطة السياسية والدينية والمجتمعات في قدراتها على التنظيم الاجتماعي والأخلاقي للمواطنين. إذ لم تعد المؤسسات السياسية وأذرعها الدينية الإعلامية والاجتماعية والثقافية والتعليمية قادرة على تنظيم الناس وتوجيههم، ولم يعد للتنشئة وجهة يمكن التنبؤ أو التحكم بها، وليس ما جرى ويجري في شبكات التواصل الاجتماعي سوى جزء بسيط من واقع جديد يتشكل على نحو فوضوي (فوضى بمعنى عدم معرفة المبادئ المنظمة أو العجز عن التحكم بها)، .. هذا السلوك غير الاجتماعي الذي ملأ الحياة والفضاء لن تضبطه كل محاولات التوجيه والتذكير والوعظ والإرشاد والانتقاد، فالسلوك الاجتماعي يعكس منظومة الحياة الأساسية والموارد والأعمال المتشكلة حولها، وليس ما يجري من كراهية وتطرف وفوضى وعنف لفظي وفعلي وفوضى في القيم والمبادئ المنظمة للعلاقات الاجتماعية والحياة اليومية سوى الفوضى نفسها في الموارد والأعمال والأسواق، ففي هذا السلوك المستمد من أسلوب الصيادين وجامعي الثمار بمعنى أن الخطأ أو الحرام هو ما لا تستطيع أن تحصل عليه.

تحتاج النخب بما هي القيادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية (هل يوجد قيادات اجتماعية اليوم؟) أن تلاحظ أنها تاريخيا وواقعيا هي المنشئة للاتجاهات والقواعد التنظيمية والاجتماعية والأخلاقية والدينية للأفراد والمجتمعات، وأن الفوضى السائدة اليوم هي واحد من احتمالات ثلاثة: عجز أو نهاية أدوات التنظيم والضبط المستخدمة، أو إرادة نخبوية بالفوضى والتفكيك تجري بوعي مسبق كوسيلة جديدة أو استجابة في مواجهة التحولات الاجتماعية الكبرى التي تجري اليوم، وليست المطالبة القوية بالحريات والكرامة والعدالة سوى جزء ضئيل من هذه التحولات، وما تفعله النخب ليس سوى وضع المجتمعات والطبقات أمام خيارين: الإذعان مع الأمان أو الحرية مع الفوضى، أو هذا ما أرجحه بسبب المنطق التاريخي لمسار الأمم نهاية النخب السائدة والأفكار السائدة أيضا، لتنشأ منظومة اجتماعية وفكرية جديدة وعقد اجتماعي جديد، واتجاهات ثقافية جديدة، وقيم وأفكار جديدة.

عندما تكون ماكينة تعمل لصالحنا، فإننا نشغل بالدفاع عنها وحمايتها، بل وتقديسها، ولا ننشغل أبدا بالسؤال كيف تعمل، لكن عندما تتوقف أو تعمل بطريقة لا تفيدنا أو تضر بنا تتحول إلى سؤال، ونبدأ بالتفكير لاستعادتها أو حرمان الآخرين منها أو تدميرها إذا اقتضى الأمر، لكننا نادرا ما ننشغل بفهم الأسباب والقواعد التي كانت تعمل على أساسها. ماكينة الدين على سبيل المثال ظلت تعمل قرونا متطاولة لصالح السلطة السياسية، لم تكن سوى أداة السلطة لاكتساب الشرعية والتأييد وضبط الأفراد والمجتمعات وتنشئتهم وفق مصالح وتوقعات النخبة السياسية. ولم يعد الدين سؤالا يشغل النخب والسلطات إلا عندما صار محركا للمعارضة والاحتجاج والخروج من المجتمعات كما الخروج عليها! وكانت السلطات في صراعها مع الجماعات الدينية المعارضة تقاتل لأجل استعادة الدين وليس لأجل الاعتدال أو التسامح أو الصواب الديني أو مواجهة الانحراف عن الدين! لكن السلطات تجد نفسها اليوم في مواجهة شبكات اجتماعية واسعة تلجأ إلى الدين في مواجهتها مع السلطة وهي في الوقت نفسه لا علاقة لها بجماعة منظمة أو معروفة!

وكما في الدين ففي السياسة والاجتماع أيضا، تتحرك في مواجهة السلطة والنخب شبكة واسعة وعميقة من النقاط المجهولة بالنسبة للسلطات، والتي لن يفيد في تنظيمها أو استيعابها قانون الجرائم الالكترونية إذا ظل محكوما بهاجس السيطرة على الأفراد والمجتمعات وليس العقد الاجتماعي، لكن القانون سوف يفيد السلطة في إطلاق الفوضى والبلطجية الذين يفسدون الشبكة، تماما كما كانت السلطة تعاقب المجتمعات والناس في أثناء الربيع العربي بتعطيل أعمال النظافة في الشوارع أو غض النظر عن عصابات سرقة السيارات. هكذا لن يكون أمام الإصلاح سوى الانسحاب من الشبكة لأنها تحولت إلى ساحات خطيرة وملوثة، لكنها أيضا لعبة خطيرة على جميع أطرافها!