حكومة لبنانية مرتبكة

أما وقد انتهت الانتخابات النيابية اللبنانية إلى ما كانت عليه قبلها، وعاد الحديث اليوم، كما في الأمس، عن الحكومة وضرورة احترام نسب التمثيل المحققة في تشكيلها، ليقين بحصولها على ثقة يؤخرها عُرف يفرضه الجميع ويحتاجه لأسباب ليست وطنية سيادية أو أيديولوجية استراتيجية فحسب، بل لأخرى تقنية تدخل فيها حسابات التمثيل وحجم الاتفاق على الاختلاف وكمّ الاختلاف على التوافق وأعداد المشاركين، خصوصاً أن المعلن عنها، إلى الآن، هو أنها ستكون موسعة توافقية.


حكومة ينكبّ المعنيون بها على درس سبل الإفادة منها ومن حقائب تبين لهم كمّها ونوعها وماهيتها وكيفية تصنيفها وتوزعها، بين وزارة درجة أولى سيادية ووزارة درجة ثانية سياسية وثالثة خدماتية، تليها وزارات «بريستيجية» مؤهلة لمكانة اجتماعية، وأخرى تظاهرية صوتية مهابة لها منزلة رفيعة استعراضية.

إنها الانتخابات الصناعية، وإنه البقاء للأقوى. والترويض في السياسة لا يعني التدجين، والممكن لا يتساوى مع المستحيل، وبالتعريف المنمق هي ليست إلا عملية استيلاد منظمة ومتعمدة ومنسقة، تُحركها سعرات تحريض مرتفعة، الغاية منها تأمين مزيد من السيطرة المُبعدة للعشوائية التخزينية المتطايرة.
 

ترتيب الوزارات السيادية سيربك التأليف ويزيد «التشليف»، فوزارة السوائل النفطية والمياه الغازية والمعدنية الجوفية ستسبق وزارة المغتربين والمنتشرين في الأهمية. المالية بعد «سيدر» ستسرق المجد من الداخلية، والعدل ستبقى متساوية مع الدفاع في المعنى، ما لم تثقل إحداها قضية. أما الباقيات فصالحات فيهن خير وزينة للحياة يجزى بها المكلف وأمه وأبوه وصاحبته وبنوه، ولكل منهم يومئذ شأن يغنيه.

المسألة ما عادت فردية بقدر ما هي قابلية مجتمع بالتوجه نحو الاختلاف أو الانعزال ومعاداة التغيير والفائدة الإقتصادية.

الديموقراطية في بلادنا ليست اختراعاً، فقد وصلت إليها بالانتقال والانتشار، والمعتمدة منها إلى الآن صوتية، حيناً تكون ساكنة وأحياناً كحرف العلة تتغير وتتبدل من حال إلى حال، بالنقص والزيادة والحذف والإبدال والقلب. معتنقها غالباً ما يعمد إلى نقر الخصم وإخراج أمعائه من كثرة التوتّر والضغطِ والعصبية. وما أنتجته الانتخابات النسبية ينفع لأن يكون متمماً للمواجهة الإقليمية التي هي دون الفائدة الاجتماعية ودون ما ينفع الناس ويُذهب عنهم اليأس والبلية.

سعد الحريري قامة وطنية تريد أن تحجز لبلدها مكاناً في المستقبل بين الدول القوية. يريد أن تضطلع بدورٍ أساسي في بناء ما دمرته في المنطقة الحرب العبثية. يريد أن يجعل من لبنان مقراً لأهم حركة عمرانية ومستقراً لإدارات كبرى الشركات العالمية. فما كان غامضاً بالأمس بات اليوم مكتمل الهوية. الفعل بالنثر والرمز والإشارة والبلاغة الخطابية نتائجه تختلف عما يخرج عن الحساب والتفاعل والهندسة الذهنية، ومن ينشد النصر لا يستخدم سلاح أعدائه، فالفضل في النصر يعود إلى تفوق بالقدرات العقلية.

يقول الحريري نحن في حاجة إلى اختراع يقودنا إليه الفضول وحب الاكتشاف، فماكينة البنزين مثلاً بُنيت والخيول كانت لا تزال تلبي احتياجات الناس اليومية، والقطارات تسير بقوة البخار منذ عقود. على الحكومة المقبلة بعد أن تنال الثقة بالنفس المتوقعة، أن تنفق وقتها على مواكبة التطوير للتقليل من الهوة التي كبرت وتعاظمت بين الزمان الذي يعيشه العالم المستقر النامي المتقدم والمكان الذي نحن فيه. عليها أن تستمر في دعم الاقتصاد وحض الناس على تفضيله لأنه الفرجة التي بعد الشدة والرخاء الذي بعد البلاء. عليها أن تصارح الناس وتدفعهم إلى الابتكار والاختراع. عليها أن تخبرهم بما تصبو إليه وتخيّرهم بين الجمرة والدرة. عليها ألا تستعين بالماضي القريب. عليها أن تسترجع وتراجع سير الكبار، من أمثال رفيق اللبنانيين، وأن تتمسك بما قاله للناس ذات مرة الرئيس المكلف عن أن الكره يزيد من فرص تكتل الكارهين، وأن المتخاصم مع ذاته، وإن كان له جناحان، فهو لا يطير، فهذا الخلد يمتلك عينان لكنهما مغطّيتان بطبقة من الجلد لأنه أهملهما وعاش في الأنفاق وحيداً.