التصحر السياسي

 

 
من المسلمات العلمية أن الصحراء هي الأرض المغطاة بالرمال، وتقل بها نسبة هطول المياه، وتزداد حالتها سوءًا في أيام الصيف وعند اشتداد الرياح، فتبدأ رمالها بالحركة والانتقال من مكان الى آخر، وأتربتها الناعمة مرض للعيون، وحشو للرئة وضيق للنفس، ثم تغطى عند لهيب الشمس بالسراب، الذي يحسبه الظمآن ماءً.

والتصحر، لا يكتفي بغزو الأرض المهملة وحسب بل يتعدى ذلك لغزو الإنسان في جسده ويبدأ في الصلع وإزالة الشعر حتى يصل الى مرحلة الجلد الخالص، وهنا قال الشاعر متندرا يوما مع صديق له غزاه الصلع:

لصديقنا في رأسه صحراء

جفت فما بها عشب ولا ماء



وكأنها الميدان من بعد الوغى

فُني الجميع فما به أحياء



ثم أن جفاء القلوب وعدم طهارة الألسن عن فاحش القول وعدم إدامة العقل بما هو جديد وغياب العدالة وتفشي الظلم وذهاب الرحمة وانقطاع الوصل وانتشار الفساد وإشعال الدعاية وتفشي النميمة، وظهور الكراهية، وانطفاء الضمير وقول الزور هي أمراض تصيب الإنسان فيغدو كما هي الصحراء جدباء يابسة لا خير فيها يرتجى، كما لا خير يرتجى في إنسان هذه صفاته، فالنفس البشرية ترتوي بالفضيلة كما ترتوي الأرض بمياه المطر، فيغدو المجتمع بكامله لا صحراء ولا تصحراً بل ربيع متكامل النمو كما هي ضفاف النهر دائم الجريان، نباته مروي كبيره وصغيره.

إن عدم العناية بالمجتمع وعدم توفر متطلباته وهي كثيرة وكلها هامة وضرورة لا زمة، ولكني أخص بالذكر منها في هذا المقال، المتطلبات السياسية، فإن إهمالها كليا أو جزئيا، عن قصد أو غير قصد هو تصحر له مع سبق الإصرار والترصد، وذهاب به الى عالم المجهول، فيصبح الوطن بحجم ووزن ذرة رمال الصحراء تأخذه الرياح الساكنة فكيف بالشديدة العاتية. وكم أُبيدت جيوش بأكملها بفعل الرمال ومن أراد المعرفة فليسأل الزير سالم «لقد ذهب المهلهل وما ذهبت ذكراه».

إن وطناً يخلو من الأحزاب، ولا يؤمن أهله بالتعددية الحزبية، وإذا أُرعبت الاحزاب ومنتسبوها من هيمنة بعض السلطات، فمن المحال أن تنمو به الديمقراطية، وإن وطناً لا يتمتع بالديمقراطية وحكم الشعب ستتفشى به الدكتاتورية وعندها حتماً ستغيب العدالة ويسود الظلم والظلام وستغيب عن أرضة الشمس ولن يرى النور.

إن وطناً تتغذى أحزابه أو بعضا من مواطنيه أو جزءًا من مكوناته بما هو مستورد خارجي، فكريا كان أم ماديا أو معنويا، لن يخطو خطوة واحدة للأمام، ولن يظهر به نية صادقة باتجاه إصلاح حقيقي، ولن تدب به الحياة وستغزوه الصحراء وسيتصحر الوطن.

إن وطناً يُغيب به الدستور ولا يُفعل ويوكل به تنفيذ القوانين لمن هم ليسوا أهلا لتطبيقه، فالقوانين التي وضعت بعدالة لاقيمة لها إن لم تنفذ بقوة العدالة، ولنا بدول الجوار وغير الجوار عبرة،فقد نهجت هذا النهج فأودى بها الى ما أودى، فذهب أحرارهم وراء القضبان، حمى الله الوطن من هذا المرض العضال الذي وقع بأشقاء لنا وما كنا نريد لهم إلا الخير والأمن والرخاء، حفظ الله دمائهم وأرواحهم وألهمهم سبيل الرشاد، أرعبت أطفالهم وروعت نساءهم، تحطم اقتصادهم وشق عليهم العيش، وتصحرت عقولهم فغابت عنها الهداية وقلة أبواب النجاة.

إن غياب الأحزاب عن ساحة الوطن، والادعاء بممارسة الديمقراطية، وإغفال العمل بمواد الدستور وتنفيذ القوانين بالرغبة الشخصية والتجاوز عن تطبيق حقوق الانسان، هو تصحر سياسي مع سبق الإصرار والترصد، وحتى التراخي والتباطؤ في الاصلاح وإن وجدت النية الصادقة فهو تصحر سياسي جائر، انتصر على النية الصادقة وأماتها في مهدها.

لا نريد للقطار أن يمر وعندها يتكرر القول «فاتكم القطار» القطار للجميع والكل مسؤول عن سلامته ورعايته، فقطار الإصلاح تحت السيطرة، ولنا جميعاً التحكم بسرعته، وأين يقف والى أين يسير.

الأردن وطن لأهله من شتى المنابت والأصول محكم بنيانه، متين نسيجه، عظيم بقوة ووعي رجاله ونسائه، شيبه وشبابه لا خوف عليه من التصحر الطبيعي ولا التصحر السياسي، فعطاء الإله غزير برحمة دون نقمة أو عذاب، وأهله كرام ووعيهم حصنه الحصين،ودرعه المتين، وقانا الله ويلات التصحر السياسي وأبعده عنا حتى لا يجفف عقولنا وتذهب ريحنا لا سمح الله.

حمى الله الأردن وشعبه ومليكه.

abeer.alzaben@gmail.com