نخرطت في العمل السري لإحيــاء نقــابــة المعلميـن



نجحت مؤقتا حيلة «محمّى عن الرز» !!
خَفَّت حدة العزلة والوحشة إلى حد كبير، فقد تعوّدت على نمط العيش في بيئة الشوبك السيبيرية وتعودت على المكان الذي أصبح أقل عزلة وأصبحت أمارس رياضة المشي التي ظلّت معي أمارسها بعنف، كنت امشي مسافات طويلة في زيارة معلمي القرى المجاورة نجل وبير خداد والشمّاخ وحوالة وبير أبو العلق.
أصبحت معشوقتي البتراء أكثر قربا وأيسر طريقا كما أصبح السفر إلى الطفيلة ومعان وعمان والمفرق أقل صعوبة بما لا يقاس وأصبحت لي هواية جديدة هي الصيد وأصبح لي أصدقاء كثر وخاصة عضو حزب التحرير الإسلامي هاني سكّر، الذي كانت مكتبته الكبيرة ينبوعا ثرّا، استعير منها دواوين الشعر الجاهلي والكتب السياسية المختلفة وخاصة اليسارية، قرأت حينها كتب الشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير وأصبحت بالطبع أول من يقرأ منشورات الحزب.
كنت أشارك في أعراس الأهالي، «أُنقّط» العريس وأدبك واغني وأطخ في كل عرس باغتين او ثلاث باغات كان الرصاص رخيصا فسعر الطلقة لم يكن يتجاوز 3 قروش وكان السلاح متوفرا بكثرة مثل توفر الحطب.
رشاش «الستن» الذي كان اسمه «بور سعيد» ثمنه سبعة دنانير وبندقية «السيمونوف» ثمنها عشرة دنانير وثمن «الكلاشنكوف» خمسة عشر دينارا.
امتلأت الشوبك بالأسلحة التي كان بدو صحراء سيناء يجمعونها من مخلفات الجيش المصري المدمر في سيناء وينقلونها على الإبل ويعبرون بها حدود الاردن تهريبا.
أصبحت تلك الأسلحة المهربة جزءا من سلاح الفدائيين لاحقا.
كنت أُدْعى باستمرار إلى كل ولائم الأعراس، فالمعلم نوّارة ذلك الزمان، كنت وما زلت أحب المناسف الجماعية التي يكون لبنها خفيفا اقرب الى الماء، «مثل غسول اليدين على رأي جدتي».
كانت الأعراس مناسبة فنية اجتماعية تقام فيها حلقات الدبكة والسامر والدّحية عدة ليال بمشاركة النساء والبنات ويتجمع اهالي القرية من أول المساء الى نحو الساعة العاشرة ليلا. ويفترض أن أحظى أنا العازب المغترب البعيد عن أهلي، بوجبة الغداء الدسمة، بعد وجبات لا حصر لها من السردين والتونا والبيض والبولابيف. وما أن توضع المناسف على الأرض حتى يتحلّق المدعوون حولها وفي لمح البصر تختفي قطع اللحم بين أيدي المدعوين الضخمة، لم يكن لائقا أن «يدافش» المعلم ولا أن ينافس على قطع اللحم!
كنت «أنقّط» العريس عشرين قرشا او ثلاثين وأعود إلى غرفتي حانقا لأتغذى علبتي طن أو علبة بولابيف صغيرة.
تكررت عودتي من ولائم الأعراس خائبا جائعا، فقررت أن أضع حدا لهذا الحال المائل.
في العرس الذي يلي تقدم كل المدعوين نحو المناسف إلا أنا، قلت لنفسي لماذا اقترب ان كنت لن انال شيئا!
بقيت بعيدا وسط إلحاح والد العريس عليّ أن اتغدى. فأعلنت: تناولوا غداءكم صحة وعافية «أنا مُحَمّى عن الأرز. لقد منعني الطبيب من تناوله».
صرخ والد العريس: الأستاذ محمّى عن الأرز يا عيال.
وما هي إلا دقائق حتى وضعوا أمامي صينية مليئة بخبز الشراك وفوقها قطع هائلة من اللحم أكلتها كلها بشراهة لم أعهدها في نفسي. أكلت حينها عن كل الأعراس التي فاتني لحم مناسفها، انتقمت من الخيبات وثأرتُ لكل المرات التي عدت فيها إلى غداء المعلبات.
تكرر هذا الحال الدسم الجميل، عرسا آخر، فما أن وضعوا المناسف ودعوني حتى بادر احدهم المعازيب إلى الإعلان: الأستاذ محمّى عن الأرز، هاتوا «صينية الأستاذ» يا عيال.
وفعلا حطت أمامي صينية مليئة بقطع اللحم الجميل «تربّعتُ» على الأرض والتهمتها كلها، كانت أعين عدد من المدعوين ترمقني حسدا وأنا لا أبالي، لا بل وأنا أكاد انفجر من الضحك، لقد «دبّرت راسي».
في العرس الذي يلي، أعلن رجلان إنهما مُحَمّيان هما أيضا عن الأرز!!
صرخ شقيق العريس: هاتوا «صينية الأستاذ».
ودعا الرجلين إلى الانضمام إلي ومشاركتي صينيتي. تبادلت معهما النظرات ونحن نوشك أن نقول « دافنينو سوا».
تم إبطال «الحيلة البيضاء» التي فعلت فعلها اللذيذ وصار عليّ أن ابحث عن ذريعة أخرى للتغلب على فوبيا المناسف الخانق، فكنت أتعمد أحيانا أن أصل متأخرا فتصل «صينية الأستاذ» المليئة باللحم التي لا يشاركني فيها احد !
لم اشعر بثلج شتاء 1967 في الشمّاخ، على شدّته، فقد كنت قريبا من «عقدة» المواصلات وكان بقربي هاتف وعيادة صحية كما إنني أصبحت أشد بأسا.
المصريون يصيدون طائرة أسرائيلية في الكرك
أتيح لي في ربيع عام 1969 أن أشاهد بالعين المجردة كيف تمكن المصريون من إسقاط طائرة إسرائيلية فوق قاعدة الرادار المصري التي أقيمت في مزار الكرك. كانت الطائرات الإسرائيلية تأتي من الغرب من فلسطين المحتلة تعبر فوق أهدافها ولا تقصفها إلا في طريق عودتها وهي متوجهة من الشرق إلى الغرب لضمان أن تسقط الطائرات التي تصاب، في الأراضي المحتلة، من اجل سلامة طياري تلك الطائرات الذين يقفزون بالمظلة.
أبدع المصريون في تصديهم للطائرات الإسرائيلية المغيرة على قاعدتهم في ذلك اليوم، فقد ظلوا يطلقون نيران أسلحتهم المقاومة للطائرات في خط علوي مستقيم واحد فشكلوا بذلك ستارة وشبكة نارية اصطدمت بها طائرة إسرائيلية كانت تلقي قذائفها على قاعدة الرادار المصرية فانفجرت في الجو، سقطت الطائرة حطاما إلى الغرب من المزار وخرج عدد غفير من أهالي المزار وطيّبة البطوش ومجرا الخرشان ونحن معهم أنا وزميلي المعلم جليل الهلسا، للبحث عن الطيار الإسرائيلي الذي تم العثور عليه جثة هامدة متفحمة.
عام 1969 أوشكت على الهلاك والموت تجمدا أنا وزميلي المعلم جليل الهلسا في الطريق من مدرسة مجرا إلى مزار الكرك الجنوبي ولم ينقذنا إلا الطالب محمد جميل القطاونة الذي أصبح محاميا بارزا في المزار.
كنت مدرسا غير منفرد في مدرسة مجرا الابتدائية بصحبة المعلم جليل الهلسا، كانت تربطنا صلات طيبة مع الأهالي فقد كنا نسهر مع الشيخ النوري بن قبلان الخرشة وشقيقه الشيخ نويران ومع الأستاذ ياسين القطاونة ومع والده الشيخ طايع وعمّه الشيخ مطيع في قرية جوير المجاورة لمجرا.
اوشكنا على الهلاك
وإذا كانت ثلوج الشوبك والطفيلة ووادي موسى سيبيرية مهولة، فان ثلوج مزار الكرك الجنوبي وقرية مجرا، لا تقل هولا. أثلجت طيلة اربعة أيام، ثلجا متواصلا كثيفا، التزم الطلاب منازلهم ونفذ مخزوننا من سولار التدفئة.
قال المعلم جليل: تعال يا محمد نخرج من هنا إلى بلدة المزار ومنها نذهب إلى منزل اهلي في الكرك نمضي يومين هناك الى ان يتوقف الثلج والبرد عن الهطل.
تدثرنا بألبسة ثقيلة وتحركنا
سلكنا الطريق الذي يربط الطيبة بمجرا بالمزار كان الوقت بعد الظهر، مشينا كيلومترا فجددت السماء «رميها» كان الثلج يتهاطل على شكل دوائر ونراه فوقنا كالصحون الطائرة. واصلنا المشي بصعوبة شديدة، وجاءنا فرجُ السماء.
سمعنا خلفنا صوت سيارة ولما اقتربت منا لوّحنا لسائقها فمر عنا رافضا أن يتوقف لنا !
صعقت. أي بني آدم هذا الذي ليس فيه من المروءة والنخوة ذرة واحدة. واصلنا المشي المضني نحو عشر دقائق فوجدنا السيارة قد غرّزت وسائقها وصاحبه يدفعانها ويحاولان إخراجها من الغرز. طلبا مساعدتنا.
قلت لصاحبي: اسمع يا جليل احذر ان تمد يد العون الى هذا المجرم.
وأضفت: يا جليل، ارجوك لا تكن مسيحيا اليوم فتدير خدك الايسر. لا تساعد من لا يستحق المساعدة.
توسلا واستعطفا دون أية استجابة منا، لقد ابتعدنا.
ازداد هطول الثلج وأصبحت حركتنا بطيئة جدا جدا، مرت نحو ساعتين ونحن لم نقطع بعد الطريق الذي لا يزيد طوله على سبعة كيلومترات.
وصلنا إلى المزار وكانت العتمة قد حلّت، كنا شبه متجمدين.
قلت لصاحبي الغارق في البياض: لن نستطيع أن نواصل إلى الكرك فالطرق مغلقة ولا وجود لأية سيارة تتحرك في هذا الطقس المريع
واضفت: لقد علِقنا فدعنا نطرق باب أي منزل نطلب الايواء الى الصباح.
قال جليل فجأة: الا تتذكر طالب التوجيهي محمد جميل القطاونة صهر المعلم ياسين القطاونة؟.
سألنا عنه فدلنا احدهم على منزله الذي دخلناه ونحن في الرمق الأخير. قوبلنا بترحاب فائق وامتلات الدار بالجلبة.
قال محمد القطاونة: اصابعك متيبسة يا أستاذ، سامحكما الله كيف تخرجان في هذا الطقس القاتل، انتما على وشك الهلاك.
أصاب محمد في توصيف حالتنا، فقد عجزت عن فك ربّاط البسطار العسكري الذي كنت البسه.
قال محمد القطاونة: سأتولى فك الرباطات عنك يا أستاذ وسأتولى تخليصك من المعطف والجرابات. وتلقى جليل عناية مماثلة.
رفع محمد جميل اوار الصوبة حتى أصبحت حمراء كالجمر وقدم لنا الحليب الساخن والسمن البلدي والعسل.
بلعت الطعام بصعوبة، كان جليل شاحبا كالسراج النائس فأدركت أنني في نفس حالته. «دَمَلنا» محمد بالأغطية الصوفية فتحلحلت أصابعي وسرى الدم في عروقي وزال الغباش عن عيوني وصار بوسعي أن اسمع جيدا، لقد عدت من الهلاك.
قال محمد: لن تتمكنا من الذهاب إلى الكرك فامكثا في ضيافتنا هنا ليومين سيصحو الجو بعدهما.
ناس بتخاف ما بتختشيش
انتقل جليل من مدرسة مجرا الى الكرك وحل محله معلم وغد مستهتر.
كنت أتفانى في التدريس ويتفانى هو في إهمال الطلاب واهمال الدوام، كان يغادر المدرسة في الصباح، فأسأله: الى اين يا محترم؟
فيقول: الى شراء أغنام وقمح وشعير.
واسأله في اليوم التالي: الى اين اليوم؟
فيجيب مبتسما ببراءة من لم يرتكب إثما: لتأجير التراكتور.
حاولت ان اثنيه عن خيانة الأمانة فكان يقابل سخطي عليه بالجملة القبيحة: «يا محمد جاي تقيم الدين في مالطا».
قبل نهاية العام الدراسي ناداني ودفع إلي مجموعة من الأوراق قائلا: تفضل. املأ الصفحات المخصصة لك.
كانت الأوراق التي دفعها لي هي التقرير السري السنوي المكون من قسمين، القسم الأول يملأه المعلم ويملأ المدير القسم الثاني الذي يتضمن تقييم المعلم عن سنة.
هذا المستهتر سيقيّمني اذن !
قلت لنفسي: لن اسمح له ان يكتب تقريري السنوي الذي يترتب عليه الكثير بالنسبة لي. وعلى اية حال لن اخدع نفسي لانه لن يكتب تقريرا نزيها عن ادائي.
قلت له: أنت يا عديم الضمير، ستقيّمني وستقرر مصيري ؟!
ابتسم ابتسامة بليدة وقال: اطمئن يا محمد، أنت إملأ ما يخصّك من التقرير وأنا سأكون كريما معك.
أغلقت باب الغرفة علينا بالمفتاح، سحبت المفتاح ووضعته في جيبي. كان في زاوية الغرفة فأس وكريك ومجرفة. سحبت ذراع الفأس وقلت له وسط ذهوله وامتقاع لونه: اكتب التقرير أمامي الآن. أملأ القسم الأخير الذي يخصك من التقرير وأنا سأملأ القسم الأول الذي يخصني!!
تمنّع فهددته. اخذ يستجيب. وادعى انه كان سيكتب عني أفضل تقييم.
قلت له: اكتب أمامي والآن.
فأخذ يسألني مستهزئا: ماذا اكتب في هذه الخانة؟
قلت: اكتب ممتاز.
اخذت اشير الى الخانات المطلوب تعبئتها وانا أقول له اكتب هنا جيد جدا. وهنا اكتب ممتاز، إلى أن فرغ من تعبئة التقرير فقلت له: اكتب كتاب التغطية الموجه إلى مدير التربية والتعليم. واكتب العنوان على المغلف. وسجِّل الكتاب في الصادر والوارد.
حملت الكتاب معي وأودعته ديوان مديرية التربية والتعليم حيث تم تسجيله وتوثيقه، وهكذا تخلصت من أذى معلم فاسد، انطبقت عليه قاعدة المصريين: «ناس بتخاف ما بتستحي».
العمل السري لاحياء نقابة المعلمين
جاءتنا إلى المدارس أيام كنت معلما في مدرسة الدجنية الإعدادية عام 1972 بلاغات ونماذج تطلب منا التسجيل في حزب الدولة «الاتحاد الوطني» فرفضت أن أسجل وطالبت بالتوقف عن اقتطاع دينار من رواتب المعلمين ثمن المجلة الرسمية التي تصدرها وزارة التربية والتعليم «رسالة المعلم».
نُقلت من مدرسة الدجنية، مديرا لمدرسة حمامة العموش الإعدادية خريف عام 1973 لم يكن لقرية حمامة ولا لمدارس القرى أذنةٌ او مراسلون يُعْنَون بنظافة المدارس، اشتريت عدة باكيتات من مسحوق التنظيف وعددا من القشاطات والمكانس، وظهر يوم الخميس قلت للطلاب: غدا سنشطف مدرستنا وننظفها.
طلبت من الطلاب الذين يرغبون في المساعدة أن يحضروا على الساعة العاشرة صباحا. حضر طلاب عديدون وحضر معلمو المدرسة، أخرجنا المقاعد من كل الصفوف ووضعناها في الساحة تحت الشمس.
خلعت حذائي وجراباتي وشمّرت بنطلوني ودلقت أول سطل ماء في غرفة التدريس وحملت القشاطة وأخذت افرك رغوة الصابون على اسمنت الغرفة واسحب الماء إلى الخارج.
تدافع الطلاب وجردوني من القشاطة واخذوا ينظفون غرف التدريس، بهمة ومتعة، الى ان أصبحت لامعة من شدة التنظيف.

كانت سيارات التجنيد تلف على المدارس تحضّ الطلاب الكبار على الالتحاق بالعسكرية، فكنت ادخل إلى الصفوف وأقول للطلاب: اسمعوا يا ابنائي الخدمة في الجيش شرف كبير وقد زارنا وفد عسكري، سيدخل عليكم بعد قليل وسيحاول إقناعكم بمزايا التجنيد.
وأضيف: إن استمراركم في الدراسة سيمكنهم بعد سنتين من الالتحاق بالجيش ضباطا تلمع النجوم على أكتافكم.
انخرطت في العمل السري للمعلمين الوطنيين الذين يناضلون من اجل إعادة إحياء نقابة المعلمين الأردنيين، تحدثت مع العم عبد خلف الداودية أول نقيب منتخب للمعلمين الأردنيين عام 1954 وأعلمني أن حل النقابة عام 1958 كان بسبب موقفها السياسي المناويء لحكومة سمير الرفاعي.
ومن الصدف ان الهيئة السرية لمفوضي نقابة المعلمين، كانت تضم ثلاثة معلمين من بلدتي الطفيلة، إبراهيم الجرابعة وغالب الفريجات وأنا. بالإضافة إلى احمد جرادات وتيسير شحروري وخالد الحمبوز واحمد النسور وعبد القادر الحسنات ومنعم الصويص.
قررنا ان نطبع كميات كبيرة من مشروع القانون والنظام الداخلي لنقابة المعلمين لتوزيعها على المعلمين على نطاق واسع، فالتقينا في مدرسة التاج الثانوية التي كان مديرها إبراهيم الجرابعة وهناك سحبنا آلاف الصفحات على ماكينة الستانليس وبعد منتصف الليل فرغنا من ترتيبها وتكبيسها في مجموعات.
حملت نحو مئتي مجموعة وسلكت نزول جبل التاج إلى الساحة الهاشمية حيث سرفيس عمان الزرقاء فوجدت مقعدا بصعوبة. نمت ليلتي تلك في الزرقاء. وفي الصباح الباكر كنت في سرفيس الزرقاء المفرق.
كنت اطوي أوراق النظام الداخلي والقيها في الليل من فوق أسوار منازل المعلمين أو أدسها من تحت الأبواب، لأجد من يقول لي من المعلمين بعد أيام: شكرا جزيلا، الورق الذي وصلني منك جيد !
فوجئت عندما تصفحت صحيفة «الشعب» التي كان يرأس تحريرها إبراهيم سكجها، كان النظام الداخلي السري لنقابة المعلمين منشورا على صفحتين من تلك الصحيفة، ذهبت الى مكتبة ماجد عنبتاوي في المفرق وابتعت كل أعداد صحيفة صوت الشعب ووزعتها على المعلمين المهتمين.
كان من تجرأ على نشر نظام نقابة ممنوعة، الصحافي محمد أبو غوش، الذي ، وكان من تجرأ على إجازة نشر تلك المادة الخطيرة هو «المعلم» إبراهيم سكجها، الذي اسعدني العمل بإمرته في صحيفة «صوت الشعب» في الثمانينيات، أما من سرّب أوراق النقابة إلى الصحيفة فقد كان احمد النسور الذي تزاملت معه لاحقا في صحيفة «صوت الشعب» !.لا أصلح تاجرا
كان جدي يقول: الدنيا للمبادر وللمقدام وللذي يضرب ضربته والحديد ساخن.
في الأول الثانوي وكنت في السادسة عشرة من عمري أصبحت مقاولا!
تعهّدتُ اول ورشة بناء وكانت صبة سطح بيت، تقدمت كمقاول لصب سطحه بالباطون. اتفقت مع صاحب البيت على الأجرة التي كانت ستة عشر دينارا قبضت نصفها مقدما قبل يومين من بدء العمل والنصف الاخر ساقبضه فور الانتهاء من الصبة.
طرقت أبواب أربعة رجال أشداء مفتولي العضلات عرضت عليهم العمل معي في الورشة بأجرة دينارين وهي اجرة مضاعفة، فوافقوا.
بدأنا العمل في خلط الاسمنت بالرمل بالماء ثم شرعنا في رفع الباطون السائل باوعية تنكية على اكتافنا الساعة السادسة فجرا وانهيناه العمل على افضل ما يمكن على الساعة العاشرة صباحا.
جمعنا أدوات العمل وغسلناها ورتبناها وسلمناها الى معلم البناء الذي كان يتولى فرش الباطون وتسويته.
عملنا بكد وبمشقة وبسرعة وباتقان، عملنا على نظام المقاولة، أي ننجز العمل فنقبض الأجرة وننصرف دون اعتبار للوقت. كنا نغني بمتعة وتحدٍ ونحن نمشي على السقالات نرفع الباطون الى السطح :
ولّع الباطون ولّع
إشتغل والا تقلع.
قبضت ثمانية دنانير هي بقية الأجرة ووزعتها على العمال الأربعة واحتفظت لنفسي بمبلغ الثمانية دنانير. على الساعة الحادية عشرة تناولنا منسفاً من لحم الخروف التي ذبحه صاحب البيت مبكرا كتقليد يرافق كل صبات عقدات البيوت.
وكرّت المسبحة.
صرت وجها معروفا في عالم صبّات الاسطح، ومقاولا متميزاً، ألتزام بالحضور على الوقت المحدد على خلاف معظم المقاولين، توقيتي مثل ساعة بق بن، اشتهرت بسرعة الإنجاز وبدقته وبإتقانه وبنظافته. كان من نصيبي ثلاث او اربع صبات في الشهر، أقوم بها أيام الجمع فقط، وكان المردود فاخرا بالنسبة لطالب.
كنت استأجر رجالا مفتولي العضلات بشوارب كثّة مكتملة، ازواجاً واربابَ أُسر وآباء. كانوا يعملون لديّ وهم يعلمون انني انا الفتى اليافع اتقاضي اجرة تعادل اجرة أربعة رجال منهم، فلا هم تذمروا ولا هم فكّروا في القيام بنفس عملي، ولا انا استكثرت على نفسي ان اقود رجالا مكتملين في عمر الوالد.
كان جدي يضرب بيَ المثلَ ويقول: انظروا انظروا الى اليتيم ابن بنتي. يوظّف الرجال ويشغلهم ويحاسبهم ويتقاضى اضعاف ما يتقاضون وهو ما يزال في اللفة.
ويستطرد: الزعامة والقيادة تولد مع الانسان. الدنيا للمبادر.
ثم عملت تاجرا فخسرت !!
الحلقة 15 تتبع الأربعاء المقبل