الكيانية الاردنية
قد يمثل البحث في الكيانية الاردنية إبحارا في بحر عاصف هائج، مليئ بالدوامات المُغرِقة والتيارات المتعاكسة، ذلك ان هذا الموضوع مشحون بالحساسيات والتعصب وتشابك وتضارب المصالح بين أكثر من طرف .
ولطالما قيل أن الاردن ليس له كيانية تاريخية، أو أنه لم يكن هناك في التاريخ دولة اسمها الاردن، أو أن الاردن صنيعة بريطانية صهيونية، لاحتواء المضاعفات واستيعاب المخرجات الناتجة عن تدمير فلسطين وانشاء اسرائيل ، وبالغ البعض فوصف الاردن بالدولة العازلة Buffer State بين اسرائيل والعالم العربي!!، كما ذهب آخرون إلى اعتبار أن الاردن هو الوطن البديل للفلسطينيين ، او أن الاردن ارض مجدبة وفقيرة الموارد لم تكن لتصبح دولة لولا المنح والمساعدات الخارجية .وقد كان من الطبيعي لمثل هذه الاقوال والآراء ان تستفز ابناء الاردن من امثالنا للرد عليها والتصدي لها، فكتب نفر منا مستعيناً بما تيسر له من التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع ، واستعان نفر آخر بالعصبية والتعصب، ولجأ كثيرون الى بر الأمان والسلام في العروبة والاسلام.
لا أبالغ إذا قلت أنني تابعت في السنة الماضية معظم ما كتب في هذا الموضوع، في الصحف والمواقع الالكترونية، ودفعني ذلك الى رحلة طويلة ومعمقة في تاريخ المشرق العربي بشكل عام، والاردن بشكل خاص، فقرأت وبحثت في غالبية المراجع العربية والاجنبية محاولاً البحث عن إجابة لما تثيره الاسئلة الصعبة عن هوية الاردن، والاصلاح والانتخابات والوطن البديل والحقوق المنقوصة والديمقراطية الديمغرافية أو الديمقراطية المناطقية، وصولا الى الفيصلي والوحدات والقبول والعنف في الجامعات، وما بين هذا كله مما يُسأل بنية صافية او غير ذلك ، سيما العالم العربي يشهد ثورة عارمة على نظامه السياسي، كما حدث في اوروبا الشرقية في تسعينات القرن الماضي، حيث نجحت بعض الدول في العبور الى الديمقراطية عبر الثورات الشعبية السلمية مثل بلغاريا وبولندا، في حين اصطبغت بعض الثورات بلون الدم كما حصل في رومانيا، كما ان هناك دولا انتهت ككيانات وغادرت مواقع الجغرافيا الى فضاء التاريخ بعضها سلماً مثل المانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وبعضها غادر الجغرافيا مخضباً بالدم ومستنقع المذابح والتصفيات العرقية والدينية كما حصل في يوغوسلافيا.
ولعلّ هناك ملامح جنينية لكل من هذه التحولات، تتشكل حاليا في المشهد العربي، فنلاحظ ارتفاع منسوب الدم من تونس إلى مصر إلى البحرين إلى اليمن ف سوريا وليبيا، كما نلاحظ ايضا ارتفاع منسوب العقلانية كما يحدث في المغرب
سأضع هنا بعض الملاحظات التي توفرت لي من مطالعة معظم ما كتبه العرب وغير العرب عن تاريخ المنطقة والأردن، وهنا لا بد من التأكيد والتشديد على ان هذه ملاحظات برسم النقاش والحوار الذي لا أرى عنه بُدّاً لوضع خريطة طريق للعبور الآمن نحو المستقبل.
اول هذه الملاحظات، انه وقبل الحرب العالمية الاولى لم تنشأ في المنطقة أية دولة بإسم الاردن - أوسوريا أو العراق أو السعودية أو فلسطين أو لبنان أو قطر أو البحرين أو الامارات أو عمان أو اليمن، كما لم تنشأ أية سلطة مركزية مستقلة في أي من هذه الأقاليم تسيطر وتحكم كامل ترابه كما هو محدد حاليا.
ثاني هذه الملاحظات، أن جميع دول المشرق العربي بالحدود والتسميات و"الهويات الوطنية" -الحالية والأُسر الحاكمة، هي صناعة بريطانية أو فرنسية، وأن كيانيتها وحدودها قد رسمت بما يتناسب وتوازن مصالح وقوة بريطانيا وفرنسا، وليس على أسس إقليمية، أو هوية وطنية، وأن من رسم كل الحدود وأطلق التسميات ووضع الشعارات ورسم بعض الاعلام، كانوا ضباطا بريطانيين دون رتبة عقيد ، فمثلا من أطلق اسم العراق على العراق الحالي كانت سيدة المخابرات البريطانية غيرترود بل، ومن أطلق اسم لبنان على الرقعة الحالية ورسم حدوده كان الفرنسي غورو، ومن رسم الحدود السعودية الكويتية العراقية كان بيرسي كوكس ,وكما تذكر الدكتورة – روز ماري زحلان -Rosemary Zahlan، في كتابها الموسوم – صناعة الدول الجديدة في الخليج - : " أن تخطيط الحدود بين تلك المشيخات المختلفة قد تم على أساس اعتماد روايات صيادين عن المواقع التي كانوا ينشرون فوقها شباك الصيد لتجف، أو المواقع التي مشت فوقها قافلة جمال، أو صدت عندها غارة بدو على مضرب خيام " . لم تكن الحدود معروفة في تلك المنطقة، ولم تكن تفصل كياناً سياسياً عن كيان آخر، وكان الفصل في المنازعات التي تحصل بين شيوخ القبائل من اختصاص حكومة الهند ومفوضها – برسي كوكس - وهو ضابط برتبة رائد، ذات ليلة عندما كان مخموراً، أمسك بقلمه الأحمر، وجرى به على الخرائط، وضع خطوطاً كيفما اتفق، وجاء ليقول بعدها لمشايخ النفط، " هذه هي حدودكم الجديدة ".!!
ولمعرفة طبيعة تشكل الكيانات السياسية في المنطقة، سنمر سريعا على تاريخ المنطقة وسنقسمه الى ثلاثة مراحل
-1 قبل الاسلام
2-من ظهور الاسلام وحتى انهيار الدولة العثمانية
3-بعد الحرب العالمية الأولى
أولا: ما قبل الاسلام
تنازعت وتناوبت على المنطقة اربع قوى رئيسية ونتج عن هذه الصراعات كيانات متباينة الاستقلال والتبعية والحيز الجغرافي
- الإغريق
- الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية بعد ذلك
- الامبراطورية الفارسية والساسانية من بعدها
- ابناء المنطقة من اشوريين ، سومريين ، انباط ، فنيقيين ، كنعانيين ،مؤابيين ،مناذرة ،غساسنة وغيرهم.
خلال هذه الحقبة التاريخية وبتفاعل مجمل هذه القوى "طبعا على مراحل تاريخية معينة " نشأت عدة كيانات، إما حول مصادر الثروة التي تتيح الاستقرار، وهي إما المياه والخصب كما في وادي الرافدين، وإما عقد المواصلات كما في البتراء وتدمر، وأخذت علاقات هذه الكيانات مع الامبراطوريات العظمى كل اشكال العلاقات الدولية والانسانية من إستقلال إلى تحالف إلى تبعية إلى احتلال وقهر، بعض هذه الكيانات أنشأها أبناء المنطقة مثل الدولة البابلية ،الفنيقية ، الانباط وبعضها انشأتها الإمبراطوريات لضرورات استراتيجية، مثل مدن الديكابوليس الرومانية ، وتحكّم في حدود ومساحة وشكل هذه الكيانات عنصران هما المصادر المتوافرة وميزان القوى مع الآخرين .
الاسلام
جزيرة العرب صحراء شاسعة شحيحة الموارد, وهي قفر وفقر معاً, شحيحة المياه قليلة الموارد والثمار وقاسية المناخ, لم تتح هذه الطبيعة القاسية إمكانية الاستقرار حيث لا يوجد مكان يوفر المصادر بشكل دائم يصلح للاستقرار حوله، فكان على الناس أن تستمر بالحل والترحال بحثاً عن الغذاء والماء النادرين، وهو ما فرض طبيعة معينة في المسكن "بيوت الشعر" وما قلل من الحيازات والممتلكات الشخصية للتخفيف من الحركة، كما أن شح الموارد جعل الصراع عليها هو القانون وليس الاستثناء, فكان على الناس أن ترتب أمورها بحيث تكون خفيفة الحركة, قوية ومتماسكة ومتعاضدة وجاهزة دوماً للقتال إما للدفاع عن مواردها أو للإغارة والسطو على موارد الآخرين، وعليه كان النظام القبلي هو النظام الأنسب للحياة في هذه البقعة القاسية حيث تتجمع كل مجموعة من الناس تنتمي إلى جد واحد، تربط بينها وشائج العصبية والتصاهر، ترحل سوياً وتقيم سوياً، يحميها فرسانها، ويحكمها حكماؤها بالتشاور والتراضي بين الجميع.
لم تسمح الطبيعة القاسية بنشوء دولة مركزية في الجزيرة العربية، كما حصل مع غالبية الأمم, لربما نشأت حواضر ودويلات في الأطراف جنوباً "اليمن", شمالاً" تدمر, الغساسنة, الأنباط, شرقاً "المناذرة" وذلك بسبب توافر الموارد، وإمكانيات الاستقرار والقرب من الدول الأخرى, أما مركز الجزيرة ووسطها فلم تنشأ به أية دولة مركزية قبل الإسلام, بل بنيت بعض المدن البسيطة حول مصادر الثروة المحدودة مثل بساتين التمر في المدينة وعيون الطائف والكعبة وزمزم في مكة.
ومع الإسلام ظهر شيء جديد تماماً هو الدعوة لإله واحد، وعصبية جديدة هي عصبية الإيمان والتوحيد، ومع ذلك بدأت تنشأ العلاقة المعقدة بين الإسلام والدولة والقبيلة, وهي علاقة لم تكن على مستوى واحد يوماً، فمن استيعاب الإسلام للقبائل، وانقسام القبائل على خلفية الإيمان والإسلام، إلى عودة انقسام الإسلام على خلفية قبلية، ومن تصادم إلى تلاقٍ إلى استيعاب إلى توظيف متبادل, استمرت هذه الجدلية الثلاثية(الإسلام, الدولة, القبيلة), تؤثر في حياة العرب وتتحكم بهم حتى يومنا هذا.
بهجرة الرسول ص من مكة إلى المدينة، بدأت تتشكل ملامح دولة مركزية، والاهم: ملامح أمة جديدة هي الأمة العربية.
ومع حسم معركة حنين ضد هوازن وثقيف، بدا وكأنّ كياناً جديداً قد تشكل, وولاءً جديداً قد وُضِع، وكان ضمانة هذا وجود الرسول الأعظم ص بقوة شخصيته، وصلته الإلهية.
بعد وفاة الرسول ص اختلف العرب والمسلمون. تحاوروا وتحاججوا وتقاتلوا حول من يحكم، وبحسب عالم الاجتماع العربي والعالمي الاول ابن خلدون انتهى الأمر الى أن من يحكم لابد له من توافر عنصرين رئيسيين
أولاً:
- شكل من اشكال القضية أو الدعوة الدينية أو العلاقة بالاسلام. .حيث ذكر ابن خلدون في الفصل السابع والعشرين من مقدمته "أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة، والسبب في ذلك أنهم لخُلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة فقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس ...."
ثانياً:
-عصبية قوية، جوهرها قبيلة أو عشيرة من قبيلة محاطة بتحالفات كما اورد في الفصل السادس في "أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية..................... وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه. وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة. والله حكيم عليم. فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان فيه محقاً قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك"
وعلى هذا نلاحظ ان الدول في المنطقة كانت تسمى باسم العصبية الغالبة "العباسية،الاموية.." أو بإسم شعارها الاسلامي"المرابطون ،الموحدون،الأغالبة.." لكنها تتأسس بهما معاً، ويمكن للدارس متابعة ذلك من الدولة الأموية "بنو أمية+قميص عثمان ".العباسية "بنوالعباس +الرضا من آل محمد" الحمدانية "بني حمدان +الجهاد ضد الروم. العثمانية"بني عثمان +مفاتيح الكعبة وحماية الخلافة"حتى المملكة العربية السعودية "ال سعود –قبيلة عنزة-+الوهابيين".....
القانون الحاكم هو قانون التغالب والاستحواذ، تسمى الدولة باسم المتغلب، وتصل حدودها الى ما تسمح به قوته وتستحوذ يداه، وكان عالم الاجتماع الشهير الاستاذ علي الوردي قد اعتبر التغالب والاستحواذ من المفاتيح الرئيسية لفهم البداوة .لذلك من النادر ان تلاحظ أية دولة في تاريخ العرب تحمل اسماً جغرافياً، فقط العصبية أو الدعوة أو هما معا.
وخلال تلك الفترة الطويلة، لم تنشأ اي دولة أو كيان أو شعب تحت الجذر مثل: سوريا او الاردن ، فلسطين،لبنان، العراق ومن يراجع ملفات الادارة العثمانية واسماء أعضاء مجلس المبعوثان العثماني لن يجد اسماً لشخص او مديرية تحت هذا الجذر، وانما سيجد الناس تنتسب إما لقبائل وعشائر أو لمنطقة بحد ذاتها كأن يقال المجالي أو العجلوني .
الحرب العالمية الاولى
في الحرب العالمية الأولى، تحطمت آمال الثورة والتحرر على صخرة التآمر "سايكس بيكو+ وعد بلفور" كلمتان رسمتا خارطة دول المشرق العربي وخلقتا الأعلام والهوية الوطنية والخصوصية والرموز الوطنية و..و.. الى آخر الكلام المعروف .
انطلقت قوات الثورة من الحجاز باتجاه دمشق، درة المدن العربية وقلب العروبة. ليس خافياً ان الجيش العربي ماكان ليصل دمشق، وأن المملكة العربية السورية ما كانت لتتأسس لولا مساندة هذا الجيش بابناء القبائل الاردنية، فمن وصوله الى العقبة والتحاق البطل عودة ابوتايه به حتى دمشق تضاعف هذا الجيش عدة مرات .
في 8 آذار 1920 أعلن المؤتمرالسوري العام استقلال سورية باسم المملكة السورية العربية بحدودها الطبيعية، بما يشمل لبنان وفلسطين والأردن والأقاليم السورية الشمالية انطاكيا ولواء اسكندرون، ونودي بالأمير فيصل بن الحسين ملكاً عليها، وقد تلا محمد عزة دروزة، أحد مندوبي نابلس، هذا القرار على الجماهير المحتشدة في ساحة المرجة أمام مبنى بلدية دمشق ، طالاً من شرفة البلدية "..أعلنا بإجماع الرأي استقلال بلادنا السورية بحدودها الطبيعية، ومن ضمنها فلسطين، استقلالاً تاماً لا شائبة فيه على الأساس المدني النيابي، وحفظ حقوق الأقلية، ورفض مزاعم الصهيونيين في جعل فلسطين وطناً قومياً لليهود أو محل هجرة لهم.."
ومن يدرس طبيعة المشاركة والمشاركين في المؤتمر السوري، سيجد ان الأعضاء جاءوا ممثلين للمدن والمناطق وليس الاقاليم ،وفد الكرك ،نابلس ،دمشق ، طرابلس وليس الاردن أو لبنان أو فلسطين أو حتى سوريا، على اعتبار ان جميع المدن تقع ضمن منطقة واحدة هي سوريا الطبيعية أو بلاد الشام .
لم تدم الدولة العربية المستقلة طويلاً ، غزت فرنسا سوريا، وانهت الحكم العربي وبدأ الانجليز بتطبيق وعد بلفور في فلسطين .
من سنة 1918 –حتى سنة 1921 كانت منطقة شرق الاردن شبه مستقلة، لا تخضع مباشرة لأي قوة من القوى العظمى ، ولم تتوحد ايضا في كيان، ذلك ان قانون التغالب لم يكن عاملا في الاردن ، فالقبائل كلها قوية صاحبة عزة وأنفة شديدة الاستقلالية ويتسم ابناؤها بالصلابة، لم تتعود الخضوع ، وقد كانت دوماً عصية على الالحاق والاكراه من ايام الصليبيين وحتى العثمانيين الذي لم ينجحوا في فرض سيطرتهم على القبائل الاردنية من القرن السادس عشر وحتى ثورة الكرك 1910 و الثورة الكبرى عام 1916،فكانت في عصب جيش صلاح الدين الايوبي في حطين، وواجهت غزوة نابليون للعالم العربي حيث كاد "بني صخر ان يفتكوا بجيش كليبر في مرج بن عامر 1799 لولا وصول نجدة نابليون، كما كانوا قلب الجيش الفيصلي في الثورة العربية، والذي لم يكن ليتحرك من العقبة الى دمشق لولا مساندة ومشاركة القبائل الاردنية، وأكاد أجزم بان اول مبادرة عربية هجومية ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني في فلسطين كان معركة تل الثعالب في نيسان ،1920 حين هاجمت كوكبة من فرسان الاردن بقيادة البطل كايد المفلح عبيدات المستوطنات الصهيونية والقوات البريطانية في سمخ شمال فلسطين، ولعل الشهداء الشيخ كايد وشقيقه المجاهد فندي، وابن شقيقه، سلطان، وابن عمه قفطان وبقية رفاقهم كانوا من اوائل الشهداء على التراب الفلسطيني . وعلى مر العصور، لم تنجح أية عصبية من العصبيات في فرض نفسها وهيمنتها على العصبيات الاخرى، فكلها ذات نخوة وشوكة من الحويطات جنوبا حتى العبيدات شمالا ومن العدوان غربا حتى بني حسن شرقا وعباد في الوسط وما بينها، وكان قد نشأ بينها نوع من توازن القوى، بعد العديد من المعارك والغزوات التي لم يتمكن خلالها طرف من فرض إرادته على الآخر بما يسمح بالسيطرة وانشاء سلطة موحدة ,كما انها جميعا على نفس المسافة من الاسلام لا تتميز اي منها بدعوة خاصة ، لذلك لم ينشأ تكوين مركزي في الاردن أو دولة موحدة او مركزية "على النمط الخلدوني كما اشار في الفصل التاسع" في أن الأوطان الكثيرة القبائل و العصائب قل أن تستحكم فيها دولة، والسبب في ذلك اختلاف الآراء و الأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها، فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت و أن كانت ذات عصبية لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعة و قوة..." ،الامر الذي حصل مع قبائل عنزة في الجزيرة والقواسم على الخليج والبوسعيد في عُمان حديثا، أو مع العصبيات الأخرى قديما،فلا عصبية غالبة ولا دعوة دينية ، وحتى الحكومات الثلاث التي نشأت في ذلك الوقت لم تحمل أيا منها اسم الأردن أو صفة أردني..اربد –عجلون –السلط-مؤاب –الكوره- حيث ما لبثت ان انقسمت الى ثماني حكومات ، ذلك ان أيا من القبائل لم يكن على استعداد للخضوع للآخر أو دفع الضريبة لما يسمى بالحكومة !
أقوى إشارة كيانية في هذه الفترة ظهرت اثناء اجتماع ام قيس في ايلول 1920 مع الميجر سمرست، الذي كان ضمن مجموعة ضباط ارسلتهم بريطانيا كممثلين للمندوب السامي لدراسة الوضع في الاردن. توجه منهم أليكس كيركبرايد الى الكرك وشقيقه الاصغر ألن الى عمان وسيمرست الى الشمال في حين ذهب هربرت صميل بنفسه للسلط.
في اجتماع أم قيس طالب الأهالي بإقامة حكومة عربية وطنية مستقلة، تضم لوائي الكرك والسلط وقضائي عجلون وجرش بالإضافة إلى لواء حوران وقضاء القنيطرة وقضائي مرجعيون وصور،وان تكون هذه الدولة تحت الانتداب البريطاني مباشرة، ولا تتبع حكومة فلسطين، وذلك للطبيعة الصهيونية لتلك الحكومة ورئيسها هربرت صمويل ،إلا أن ما تمّ على أرض الواقع كان قيام الحكومات المناطقية سابقة الذكر.
قدوم عبدالله بن الحسين للأردن حل هذه المعضلة، فقد جاء بالعصبية والدعوة ، عصبية شريفة هي عصبية بني هاشم، والدعوة لتحرير سوريا، لكن قوة العصبية هنا كانت قوة معنوية أكثر منها مادية، فالقوات العربية المرافقة اللأمير عبداللة لم تحاول ان تفرض نفسها بالقوة على عصبيات الأردن، ولو حاولت لفشلت بالتأكيد ، فاستبدل التغالب بالتراضي، وبرغم حصول بعض الاضطرابات في الاعوام 21و23 إلا انها كانت ذات طابع احتجاجي وليس انفصالياً , ونشأت الدولة"الامارة" المؤسسة على التراضي العام 1921" قبل نكبة فلسطين وتأسيس اسرائيل ب27 عاماً، وقبل المملكة العربية السعودية ب 11 عاماً، وقبل الجمهورية السورية ب15 عاماً، وقبل الجمهورية اللبنانية بخمسة أعوام ، وذلك يعني من الناحية الواقعية أن الأردن هو أقدم كيانات المنطقة .
وفيما بعد، تحولت الامارة الى مملكة، تحمل في اسمها الصفتين، العصبية الراضية والعصبية المرْضية "الاردنية الهاشمية" .
كان هذا التأسيس الاول للملكة الاردنية الهاشمية، التي كانت فيها مؤسسات الدولة وتحديدا الجيش، وما يرتبط به من أجهزة العمود الفقري الذي تمحورت حوله الهوية الوطنية، أو القابلة التي وُلدت تلك الهوية على يدها، لذلك يلاحظ ان علاقة الاردنيين بالدولة علاقة خاصة جدا لا يشوبها اي جانب تعادٍ او تباغض ، فمؤسساتها ليست ميراث عهد استعماري، ووجودها تزامن مع تحسن ظروف المعيشة .
أعيد تأسيس المملكة في العام 1950 بوحدة الضفتتين ,ففي العام 1950 ورداً على نكبة 1948 أُعلنت المملكة الأردنبة الهاشمية، كاول دولة وحدة في تاريخ العرب الحديث، حيث تأسست الشراكة التالية :
المملكة الاردنية الهاشمية، أرضاً وشعباً "شرق الأردن" وسكانها، وما تبقّى من فلسطين أرضاً وشعباً "الضفة الغربية " وسكانها
قدم الاردنيون مدن عمان والزرقاء واربد والكرك ومعان والطفيلة الرمثا والعقبة وجرش وعجلون وغيرها من المدن والقرى وقدم الفلسطينيون القدس وبيت لحم والخليل ورام الله ونابلس وجنين وطولكرم وغيرها من المدن والقرى ، كما قدم الشعبان كل ما يملكان من موارد طبيعية وبشرية وشرعا ببناء دولة وحدة صارت نموذجا في التقدم والتنوير والتسامح .
وصدر في العام 1952 الدستور الذي يطالب به الجميع الآن ، الذي تنص مادته الأولى من الفصل الاول
على أن: ﺍﳌﻤﻠﻜﺔ ﺍﻷﺭﺩﻧﻴﺔ ﺍﳍﺎﴰﻴﺔ ﺩﻭﻟﺔﻋﺮﺑﻴﺔ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﺫﺍﺕ ﺳﻴﺎﺩﺓ ﻣﻠﻜﻬﺎ ﻻ ﻳﺘﺠﺰﺃ ﻭﻻ ﻳﱰﻝ ﻋﻦ ﺷﻲﺀ ﻣﻨﻪ . ﻭﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻷﺭﺩﱐ ﺟ ﺰ ﺀً ﻣﻦ ﺍﻷﻣﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻭﻧﻈﺎﻡ ﺍﳊﻜﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻧﻴﺎﰊ ﻣﻠﻜﻲ ﻭﺭﺍﺛﻲ.
وينص فصله الثاني في مادته السادسة على أن:
ﺍﻷﺭﺩﻧﻴﻮﻥ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﺳﻮﺍﺀ ﻻ ﲤﻴﻴﺰ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﰲ ﺍﳊﻘﻮﻕ ﻭﺍﻟﻮﺍﺟﺒﺎﺕ ﻭﺇﻥ ﺍﺧﺘﻠﻔﻮﺍ ﰲ ﺍﻟﻌﺮﻕﺃﻭ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﺪﻳﻦ.
و في ظل المملكة عاش الناس تجربة وحدوية وديمقراطية ما لها أكثر مما عليها استمرت حتى عصفت بها هزيمة 67 وتداعياتها وتلكم مرخلة ثانية من الكيانية الاردنية في مواحهة التخديات،سنتناولها في الجزء الثاني من هذه الدراسة .