فوضى المصطلح!!

 غالباً ما يقوم خلاف كبير بحثاً عن «المسؤول» إذا ما واجهت «الدولة» أيّة دولة أزمة ما. وهذا دليل بيّن على أن الكثير من الأطراف تسعى، كل من جانبها، نحو التنصل من التبعيّة والحرص على إلقاء الذنب على الآخرين. ومردّ ذلك، في مجمله، أننا داخلون في فوضى فهم المصطلح، من مثل «المسؤول» و»الوظيفة» و»الواجب» و»الحق». وبالرغم من وجود تجارب أمميّة عديدة، وبالرغم من تدوين الكثير من النصوص القانونيّة والدستورية والميثاقيّة، إلا أننا نجد أن المواطن عندنا يرسف في أغلال سوء التفسير، وضبابيّة التأويل، وتداعي التعاطي، وتدهور المقاربات، والتّيه في سياقات تنفيذ المطالب، وأداء الواجب. وما أن تبدأ بقراءة الحرف الأول من المصطلح، حتى تجد نفسك «مهروساً» تحت ضغط «التطاول» و»قذف المحصنين» و»تجاوز القَدْر» و»تخطّي الحدود»، وعندها عليك أن تختار بين أمرين؛ إما أن تُغْلق فمك، وإما أن تعرّي ظهرك للجلاد. قديماً قلنا: إن «المسؤول» حسب المفهوم الصحيح للمصطلح يعني ذلك الشخص الذي تُلقى على عاتقه المهمة وتوكل إليه، وهو الذي يجب أن يظل دائماً في دائرة المسؤولية والمساءلة والمراقبة والمحاسبة، وإلا لماذا استخدمنا صيغة المفعول ولم نستخدم صيغة الفاعل. وعليه فقد دوّرنا الأمر من صيغة المحاسَبْ (بفتح السين) إلى صيغة المحاسِبْ (بكسر السين) وهذا ما هو واقع. فإن كنت تجلس في مكان وجاء أحد المسؤولين أندسست بين الموجودين محذرهم أن يسكتوا لأن «المسؤول» قد وصل، مع أنه من المفروض أن يتوارى هو عن القوم خوفاً من أن يُعّرف بالمصطلح (بفتح السين)، وعليه أيضاً أن لا يطمئن لحاله إلا عندما ينجز وظيفته، ويؤدي واجبه باكمل وجه. وإذا ما ذهبنا إلى مصطلح «الوظيفة» فهي تعني ما يقدّر من عمل في زمن معيّن. ولكن أهم من ذلك ذهابها إلى معنى وظّف الشيء على نفسه ألزمها أياه. وفي إجماع فقهاء الإدارة فأنهم يعرّفون الوظيفة بأنها «مجموعة من الواجبات والمسؤوليات تحددها سلطة اختصاص». وعليه فإن الموظف هو الشخص المؤمّن على واجب يؤديه، ويظل دائماً تحت المراقبة والمساءلة، وذلك لأن كل ما يقوم به هو حقوق الآخرين، وهو مطالب بأن يؤدي هذه الحقوق على الوجه الأمثل. الوظيفة تقوم في الأساس على عقد بين جهتين؛ المستخدِم والمستخدَم، وبالتالي يكون الموظف هو شخص مكلف بخدمة الآخرين لا أن يتعالى عليهم، أو أن يَمُنّ عليهم، فكل ما يقوم به هو «أداء» واجب لاعطاء «حق» للناس. وهنا نسأل مَنْ يعمل عند مَنْ؟ بمعنى الخدمة العامّة. كثيرون، في البلاد، من الموظفين العامين من يتطاولون على الناس، بل ويعتبرون أنفسهم في عليين، متناسين أو متجاهلين أنهم، من بدايتهم إلى نهايتهم، أشخاص موضوعون في خدمة البشر. ومن المحزن أنك كثيراً ما تلاقي بعض هؤلاء وقد تمترسوا وراء مكاتبهم، متسلّحين بما بين أيديهم من قضايا وقرارات، يتطاولون على الخلق، وتصرف لأحدهم أكثر من مئة «يا سيدي» ليؤدي «واجبه» وألف «يا بيك» ليعطيك «حقك». يقوم تعريف الوظيفة العامة على أنها «رسالة وخدمة ذات طبيعة خاصة تتسم بالدوام والاستقرار، وتستهدف ضمان سير المرافق العامّة، ويخضع فيها الموظف لنظام لائحي يستقل المشرّع بتحديده». أما ثنائية الواجب والحق، فقد دخلت في خلط عجيب، حيث أصبح الكل يطالب بالحق ويتنصل عن أداء الواجب. فالبعض من شاغلي الوظفية العامة نصّب نفسه، ، على أنه صاحب الحق في أن يدير شؤون الناس كما يشتهي، وفرض نفسه منزّهاً عن الشبهات وعن المساءلة وعن المراقبة، فدخلنا في وديان من الفساد والإفساد، وأصبح المواطن صاحب الحق متحملاً خطيئة فقره وديونه ومرضه وتهميشه وجهله. وأصبح أيضاً عاجزاً عن مطالبة الجهات المسؤولة بهذه الحقوق، وممنوعاً من تذكيرها بواجباتها حياله، ومحرّماً عليه أن يقول إن المطالبة بالحق تقتضي تأدية الواجب إذ أن كليهما وجهان لعملة واحدة. ولا يجوز لمن استلم الولاية أن يغفل عن القيام بمهامه الموكولة إليه، خاصة وأن الجميع قد أدّى قَسَماً إما بحرفية التعبير أم برمزيتها؛ إذ أن عملية استلام المستحقات من رواتب وزوائدها يعني عهداً ما قطعه الموظف على نفسه بأن يؤدي الواجب الملقي على عاتقه. دعونا نعيد فهم المصطلحات، ودعونا نعيد قراءة المشاهد كما هي، ودعونا نخاف من قوله تعالى: «وقفوهم إنهم مسؤولون»